لتحميل المقالة: السياسة ما وراء الخير والشر – الجزء الثاني
رأينا في الجزء الأول أهمّ الأحداث السّابقة والمعاصرة لتأليف كتاب الأمير، نبقى في هذا الجزء الثّاني مع تحليل فصول الكتاب، كالآتي:
رابعًا: كتاب الأمير وفصوله
كانت بداية الكتاب بإهداء خاطف عنوانه: من نيكولو مكيافيلي إلى لورينزو الابن العظيم لبييرو دي ميديتشي، سعى فيه مكيافيلي لنيل رضى الأمير والأسرة الحاكمة كما يظهر، قائلًا: «من المعروف، أنّ أولئك الذين يسعون إلى نيل رضاء أحد الأمراء، يجتهدون في تقديم الهدايا الثّمينة ذات القيمة الغالية إليه»(1). مع أن مكيافيلي أهدى للأمير الحاكم كتابًا سمّاه «شيئًا متواضعًا»، بمعنى لا يرقى إلى الهدايا العينيّة الثّمينة، فيقول: «لكنني على أيّ حال، أودّ أن أهدي سموّكم الكريم شيئًا متواضعًا يدلّ على إخلاصي لكم»(2).
الملاحظ، أنّ مكيافيلي بالَغ في التواضع والاعتذار على ما فات، بعبارات عديدة في الإهداء، بل حتى النّدم على ما اكتسبه طول حياته، وما تحمّله من أجل الكثير من الأخطار والفقر سنوات عمره(3).
ولا شكّ أنّ التّودّد مِن بين الغايات في إهداء الكتاب للأمير، إلّا أنّ الحقيقة الأسمى المضمرة – في الاعتذار الواضح – كانت في لَمِّ شمل إيطاليا وتوحيدها. لكنّه لم يعمل قطّ تحت حُكم آل ميديتشي، فلماذا يتودّد لهم؟ بل كان جوهر سؤال فلسفته السياسية: كيف تنشأ الدّول، ولماذا تسقط؟ وكيف يمكن الوصول للسّلطة، والحفاظ عليها؟ آملًا تطبيق نظريّاته في تخليص بلده إيطاليا من التمزق الطائفيّ الذي تعيشه.
كلها أسئلة سنرى أجوبتها، بشكل أو بآخر، في المحاور الأربعة التالية، ونبدأ بالمحور الأوّل:
المحور الأول: الحكومات والمماليك وصفاتهما من الفصل 1 إلى الفصل 11
في هذا المحور، الذي يَضمّ نصف فصول الكتاب تقريبًا، يناقش مكيافيلي بإسهاب الحكومات والمماليك. كانت لهذه الاستفاضة مبرّراتها، فالدولة صارت مقسّمة في حروب طاحنة لا تكاد تهدأ حتى تعود من جديد، وكان مكيافيلي يحثّ الأمير على الاستفادة من تجربته الميدانية الطويلة، التي راكمها على أمل توحيد البلد واستقراره.
لقد بدأ بوصف الأنواع المختلفة للحكومات وطُرق إقامتها، فالدولة تسيطر على الشعب بالسّلطة في جمهوريات أو ممالك وراثية قديمة أو أخرى حديثة، أو نوع ثالث يضاف كجزء جديد للوطن بالحسنى أو بالبأس، فالدّولة عنده تعني السيطرة أي الجبروت.
فالصنف الأول هو الممالك الوراثية؛ حيث يكون التنافس فيها شديدًا للوصول إلى السّلطة، ولكن يكون الحُكم بعد ذلك مضمونًا. حتى إن خسر الأمير العرش، فمع أول فرصة سانحة يكون قادرًا على استعادته؛ لكون الأمير محبوبًا عند شعبه، ولا يحب الخلاص منه لأجْل التّغيير فقط لا غير.
ولكنه أقرّ صعوبة إدارة الصنف الثاني: الممالك المختلطة، أي القديمة والتي تضمّ أجزاءً جديدة. فكلّ مَن أُصيب في معركة بسبب الأمير يصير عدوًّا له، وحتى مَن ساعده يعجز الأمير عن تطبيق القوانين عليه لو خالَفَه، لفضله السابق. والطريقة الملائمة للسيطرة على هذا النوع بسلام، هي «أن تُمحى الأسر التي كانت تحكمها من الوجود»(4)؛ وإن وُصف هنا الفعل بالقسوة، إلا أنّ اللجوء للشر يكون في حالة واحدة: الحفاظ على الدولة، مما يعني أن الخير هو الطاغي. فالمماليك الجديدة ذات اللغة والجنسية نفسهما تسهل السيطرة عليها، لكن إذا كان العكس، فيجب على الأمير الإقامة فيها لاستمرار حُكمه، وضمان وَأْدَ الفتن في مهدها للسيطرة على الأوضاع؛ كما يجب عليه إقامة مستعمرات استراتيجية داخلها، «وهذا يعتبر نوعًا من الحماية للدولة، أما من تضرّروا، فإنّهم لن يستطيعوا الانتقام من الحاكم إن ظلّوا فقراء ومتفرّقين»(5)، في السياق نفسه، يجب على حاكم الإقليم الجديد حماية الضعفاء من الجيران، ويكون ندًّا شديدًا للأقوياء منهم، حتى يظفر بحبّ شعبه الجديد، دون ارتكاب أدنى خطأ، ليظهر أمامهم كالبطل الذي كانوا ينتظرونه منذ مدّة، يقول مكيافيلي: «إنّ رغبة تملّك الأشياء أمر طبيعي وعادي جدًّا. ومن يستطيع تحقيق ذلك يمدحه الناس ولا يلومونه، ولكن من يريد التملّك، ولا يستطيع تحقيقه فإنّه يودّ أن ينجح مهما كلّفه الأمر، فيقع في أخطاء ينال عنها لوم كثير»(6).
ويعطي هنا مثالًا بمملكة داريوس(7) التي احتلّها الإسكندر الأكبر(8)، ولم تتمرّد على خلفائه بعد وفاته، إذ الحُكم يعتمد على الأمير وأتباعه الذين يدعمهم ويؤيّدهُم بنفسه، فتكون له صلاحيّات أكثر، ويسهل الإيقاع به حالة هزيمته؛ لأنّ أتباعه كالخَدم زال مَن يحكمهم بمجيء حاكم جديد، كالعثمانيّين آنذاك. أو يعتمد على العائلات العريقة، وتنقص بذلك صلاحيّاته فيسقط الحاكم. ولا يمكن السيطرة على دولة النبلاء، بحيث يمكن للأمير استمالة بعضهم، لكن يصعب عليه تلبية طلبات الكثيرين منهم، كمملكة فرنسا آنذاك.
فأحسن طريقة لحُكم المُدن والممالك التي كانت قبل احتلالها تحت ظلّ قوانينها الخاصّة، السّيطرة عليها من داخل أفرادها، ثمّ فرض قوانين مستحدثة أو استقرار الحاكم بنفسه فيها أو الحفاظ على القوانين السابقة مع دفع الجزية.
وأما الولايات الجديدة التي ضمّها الأمير بقُدراته وجيوشه، يجب عليه الإقامة فيها، ومكيافيلي دائمًا ما يحثّ الأمير على الإقامة في المستعمرات الجديدة. فاعتماد الأمير على المهارة الشخصية، وقليل من الحظّ في الحصول على الإمارة، يكون طريقًا صعبًا، لكن نهايته تكون مريحة دون تعقيدات تُذكر، ما عدا الحيطة من الأعداء المستفيدين من النظام القديم. لذا يجب على الأمير أما استقطاب الناس، ولن يحقّق الكثير في ظلّ هذا الوضع، أو يفرض قوانينه فرْضًا دون الاعتماد على أحد، وهاته الحالة التي سينجح في السيطرة فيها.
ولكن في جهة مقابلة، نجد العكس تمامًا، فالممالك الجديدة التي يتمّ الحصول عليها بقوة الآخرين أو بالصُّدفة، بمعنى يكون فيها منصب الأمير صدفة بدلالة سهولة الوصول، يحاذيها صعوبة المكوث وسرعة الانهيار، مع وجود استثناءات نادرة. ونفهم أنّ منصب الأمير المُكتسب بسلاح الآخرين، يزول الحُكم فيه بزوال الشّيء الذي أوصله، يقول مكيافيلي: «سوف أضرب هنا مثالين قد قفزا إلى ذاكرتي، وهما يجسّدان الوصول إلى الإمارة أما بالقدرة، أو بحسن الطّالع، وهذان المثالان هما: “فرانتشسكو سفورتسا” و”قيصر بورجيا”»(9)، بحيث حصل الأوّل على الحُكم بفضل الصّدفة، أما الثّاني بفضل نفوذ والده الإسكندر السادس، وكلاهما لم يدم طويلًا في السلطة للسبب السابق نفسه: زوال الشّيء الذي أوصلهما صدفة للحُكم.
في سياق متّصل، يُعتبر سيزار بورجيا من الأشخاص الأساسيين الذين مدحهم مكيافيلي في كتابه «الأمير»، وهو الابن غير الشرعي لرودريجو بورجيا، بابا الكنيسة تحت اسم ألكسندر السادس سنة 1492م. فتعظيم مكيافيلي لبورجيا كانت له مبرّراته وأسبابه، من ضمنها صراع العائلات دينيًّا وسياسيًّا. فكان موقف القوة الذي استعمله بورجيا محطّ إعجاب عند مكيافيلي؛ لأنّ القائد العظيم، استطاع فرْض هيمنته على الأماكن التي حاربها مُحرزًا العدل والمساواة، وضمَّها لبابويّة والده البابا الحاكم. فكان سائرًا في طريق توحيد أجزاء إيطاليا، وما زاد الإعجاب بشخصية هذا القائد تصرفه الذكي، عندما قَتل أحد ضباطه روميرو دي أوركو بلا رحمة (10) الذي انشطر نصفين ليلًا حتّى رآه القوم صباحًا وقد ارتاحوا من بطشه، لا لشيء سوى أنّه أوغل في الوحشية ضد عامة الشعب، مبرِّرًا بورجيا فعلته تلك، حينما أمر بقتل قائده، أنّه لم يكن يعلم بالتصرف المشين والهمجية التي كان يستعملهما ضدّ الناس الأبرياء؛ فتزعّم «سيزار بورجيا الجيوش البابويّة وهدّد استقلال فلورنسا، ولكن لاحظ مكيافيلي نوعًا مختلفًا من القادة في سيزار؛ لأنّه كان الرّجُل الذي قَتل أحد ضبّاطه – روميرو دي أوركو – عندما اتّضح له أنّه استخدم القسوة غير المبرّرة في رومانيا(11) خلال سيطرته على مقاطعتها»(12)، والشيء الغريب الذي يمكن ملاحظته في هذا السّلوك، أنّ سيزار بورجيا نفسه كان عنيفًا أصلًا، فقام بتخفيف الضّغط عنه موجِّهًا الأنظار للقائد، فخرج منتصرًا أمام النّاس إلى حين. مع أنّنا لا يجب أن نغفل هنا استخدام مفهومي الخير والشر اللذين يسيران في تواز، بمعنى كلاهما يؤدّي الغرض نفسه، فافتتح مكيافيلي بهذا الصّدد إشكاليّة نسبيّة المفهومين، وجاز وصفهما بالوجهين لعملة واحدة.
كانت هذه النقطة من الأشياء التي جَلبت للكِتاب انتقادات جمّة، فكيف يُثني مكيافيلي على قائد أعتى الجيوش ضراوة واستعمالًا للعنف؟ واستغرب الكثيرون، إلى يومنا، تصرّف مكيافيلي المثير للجدل، إلّا أنّه في كتاب الأمير يقول مدافعًا، عن رأيه ذي الأبعاد الفلسفيّة: «وعندما أراجع أعمال الدّوق، لا أجد ما ألومه عليه، بل إنّي أجد لزامًا علي أن أرفعه كمثال، يجب أن يحتذيه كلّ من حصل على سلطان، بسبب ما قامت به قوّات غيره. وبسبب شجاعته العظيمة، وطموحه الكبير لم يكن أمامه أن يفعل إلا ما فعل، وما أحبط خططه إلّا قصر حياة الإسكندر، ومرضه شخصيًّا»(13)، وفي الاتّجاه نفسه، نقتبس ما ذكره كيث جرينت تأكيدًا لفكرة مكيافيلي في مدح بورجيا الذي يمثّل البطش، ولا شيء غيره، ولماذا أُعجب بتصرّف القائد حين استعمل العنف الزائد: «استخدم مكيافيلي سيزار دي بورجيا، بعد ذلك، كقدوة يحتذى بها في تنفيذ السياسة بالقوة، فقد آمن بأنّ سيزار استعاد السلام عن طريق اختياره للعنف. كان البديل […] التّصرّف بنُبل وأخلاق، ولكن في رأي مكيافيلي، كانت عاقبة التصرّف بأخلاق في عالَم لا يتّسم بالأخلاق، هي السّماح للفاسدين بالسيطرة»(14)، فَنَلْمَحُ وضوح السّبب، وهو التصرّف بأخلاق في وسط يعجّ بالفساد ترخيصٌ رسمي للمنحرفين بالتّمادي في أعمالهم القذرة. وهنا تجدر الإشارة أن نضع نصب أعيننا كون حيّز الأخلاق غالبًا عند مكيافيلي هو الفرد، لا الدولة التي يمثلها الشعب، وهي حيّز السّياسة، عملًا بالمبدأ الآتي: مجال الأخلاق سلوك الفرد، ومجال السياسة سلوك المجموعة.
فَمَن يريد تأمين إمارته الجديدة يحتذي بالدّوق بورجيا عمومًا في هذه الأمور: كسب الأصدقاء، وتأمين نفسه ضدّ الأعداء، والفوز لا محالة، وكسب حبّ الشّعب، وفرض هيبته، ووجود جنود مخلصين، وسحق الأعداء، وإرساء قوانين جديدة، والاتصاف بالشدّة واللّين والنّباهة، وصداقة الأمراء والملوك.
أما الذين وصلوا لمنصب الأمير بالخديعة والحقارة، باستعمالهم القتل، والإبادة، والمكر دفعة واحدة، حتّى لا يُجْبَروا للرّجوع مرّة أخرى لهذه الكيفية؛ فلن يُسمح لهم أصلًا بالرجعة لأنّهم لا ينجحون إلا مرة واحدة، وفي حالة التّفكير في الموضوع مُجدّدًا، يثور الشّعب، ويفوت الأوان. والأهم من هذه الخطوة هو الشّحّ في استعمال الخير بعد القوة المفرطة، ليبقى الشّعب دائمًا يتذكّر الـتصرفات الإيجابيّة وإن قَلَّت، وتظلّ الأغلبيّة معلَّقة بالحاكم الخيِّر في نظرهم، فــ «إذا كانت الأخطاء لابدّ واقعة، فيحسن أن تكون دفعة واحدة، حتى تكون أقلّ تأثيرًا من واقعات متعدّدة تبقي آثارها، أما المزايا فيجب إعطاؤها للرعايا، جرعة جرعة، حتى يستمتعوا بها، ويشعروا بفائدتها»(15)، عملًا بالمبدأ الآتي: القوة المفرطة مقابل العطف المقطَّر.
بيد أنّ الصنف الثالث، الإمارة المدنية، التي يصبح المواطن فيها أميرًا بترشيح من المواطنين، سواء أبناء الشّعب أو الطّبقة البورجوازيّة، وليس بالتّحايل أو العنف، و«يسمى هذا النوع بالإمارة المدنية»(16)؛ فمع كون الطبقتان متنافرتين تمامًا، فالشّيء نفسه يكون في من تولّى الحُكم اعتمادًا على إحداهما، فمرشَّح الشّعب يحبّه الشّعب، ومرشَّح النّبلاء يؤيّده النّبلاء، ويبذل مجهودًا إضافيًّا ليكسب حبّ الشّعب إن استطاع، وإلّا ستكون نهايته. إذْ يتحتّم على الأمير ابتكار وسائل تجعل رعيّته في حاجة دائمة له، وقتها سيجني ثمار الولاء الدائم.
وكان الصنف الرابع مختلفًا تمامًا، بحُكم وجود عنصر الدّين، وهو الإمارات الكنسية، التي تكون محكومة بعادات دينية قديمة، يتمّ الوصول للحُكم فيها بالصدفة أو الدَّهاء، ويكون عسيرًا مناقشتها أو انتقادها، لذا مَن يصل إلى الحُكم يسهل عليه الاحتفاظ بحُكمه، وبحسب مكيافيلي هؤلاء «الصنف الوحيد مِن الأمراء الذين يحكمون ولاياتهم ولا يدافعون عنها، ولهم رعايا لا يهتمّون بهم، وعلى الرغم من أنّهم لا يدافعون عن ولاياتهم فإنّهم لا يفقدونها، ولا يستاء منهم رعاياهم بالرغم من إهمالهم لهم (…)، ولذلك فهي الإمارات الوحيدة الآمنة والسعيدة»(17)، إذ يمكن للبابا – بجانب الدّين – السّيادة بالقوة والمال، كشأن العقل المدبِّر الإسكندر السّادس، وابنه الدّوق آلة التّطبيق كما رأينا.
وبالمقابل، فإنّ كافّة الإمارات السابقة تحتاج القوة لكي تستمرّ، فالأمير القويّ الذي يحمي نفسه بنفسه يحتاج جيشًا متينًا منظَّمًا، في حين الأمير الذي يحمي نفسه بمساعدة الآخرين، لا يواجه الأعداء في الميدان بل يبقى داخل المدن يدافع، وكلتا الحالتين يتّضحّ «أنّ الأمير الذي يعيش في مدينة قوية ويحبّه شعبه لا يمكن أن يُهاجَم، ولو هوجم فإنّ من يهاجمه سيضطرّ إلى الانسحاب، وهو يجرّ أذيال الخيبة والعار»(18).
هاته القوة، وما يرتبط بها، سيتحدّث عنها مكيافيلي في المحور الثاني، الذي عنونتُه الجنود وأنواعها، وضمّ ثلاثة فصول كما تبيَّن لي.
المحور الثاني: الجنود وأنواعها من الفصل 12 إلى الفصل 14
فيما يخص الأنواع العسكرية المختلفة والجنود المرتزقة، يؤكّد مكيافيلي أنّ أهم دعائم الإمارة وجود أسلحة ممتازة، وتدريب جيد للجنود. وبحسبه فالأسلحة أنواع: أما أسلحة خاصة بالأمير، فتوصف بالمنظَّمَة والمنضبطة والقادرة على تحقيق الانتصار، أو تكون أسلحة لقوّات مأجورة أو أسلحة حلفاء، بمعنى أنّها مفكَّكة بلا فائدة؛ إذْ تكون مع الأمير في السِّلم، وتفرّ لحظة الحرب. هذان النّوعان الأخيران كذلك قوّات مرتزقة، لا تُقدِّم إلّا المضرّة ولن تستفيد الدّولة منهما شيئًا، وفي هذا المقام يقول مكيافيلي موضّحًا: «نستطيع أن نحقّق بعض التّوافه باستخدام القوّات المرتزقة لسنين عديدة، لكن ما تسبّبه من خسائر يأتي مفاجئًا وغريبًا»(19). وفي الصدد نفسه، فقوات الجيران قوّات معاونة، لا نفع منها كالقوّات المرتزقة، إذا خسر فذاك، وإذا ربح فإنّه سيبقى أسيرًا لمتطلّباتها لأمد طويل، والأمير الذّكيّ خير له وأفضل بكثير الانهزام بجيشه الوطني بدل الفوز بقوّات الآخرين.
وبعد ذِكر أنواع الجنود وأهمّيّتها، يأتي مكيافيلي لنصح الأمير، وشرح واجباته فيما يتعلّق بالقوّات المسلّحة الوطنية، ويلحّ عليه البدء بتنظيم القوّات وهيكلتها، ومن يُهمِلهَا تكون النّتيجة كما يقول مكيافيلي: «إنّ الأمراء يفقدون ولاياتهم، عندما يفكّرون في مظاهر التّرف أكثر من تفكيرهم في الأسلحة»(20)؛ لوجود فرق كبير بين أمير مسلّح وآخر أعزل؛ إذ على الأمير نفسه التدرّب وقت السِّلم أكثر من وقت الحرب، ليكسب هيبة جنوده، وبشكل أخصّ، هيبة أعدائه. ويُعَدّ نزوله للميدان عند الصّيد مثلًا، شيئًا ذا أهمّيّة بالغة، ليعرف تضاريس بلاده التي يستغلّها في خُدَعِ الحرب، كالهجوم والمعسكرات والكمائن وغيرها. إلى جانب لزوم اطّلاع الأمير على تاريخ العظماء للاستفادة من انتصاراتهم، وتجنّب، ما أمكن، أسباب هزائمهم.
بعد أنواع الإمارات والجيوش، ينتقل مكيافيلي للحديث مباشرة عن شخصيّة الأمير: كيف يجب أن تكون؟ وما صفاتها؟ وهي فصول جمعتها كما درستُ في سبعة، كما سيأتي في المحور الثالث:
المحور الثالث: شخصية الأمير من الفصل 15 إلى الفصل 21
هذا المحور، من دراستي، يُعَدُّ أهمّ محور يُركِّز الباحثون عليه في دراسة كتاب الأمير؛ حتّى واضعو المناهج العامّة للسياسة يركِّزون على هذا الفصل بشدّة. إذ خصّص له مكيافيلي حوالي ربع الفصول، موجَّهة للأمير شخصيًّا بالنّصائح، وأشياء يجب العمل بها، وأخرى يتجنّبها في تسيير الدولة.
فيبدأ مكيافيلي الحديث عن شخصية الأمير في اختيار مستشاريه حوله؛ لأنّها بيئة العمل الأساسية، التي يجب أن تكون مناسِبة للجدّيّة والعطاء؛ حيث يُدقِّقُ الأمير طريقة اختيار أصحابه ومقرّبيه؛ لأنّه إذا أراد «الخير لن ينعم أبدًا إذا كان حوله الكثير من الأشرار، لذلك يجب على الأمير الذي يريد الحفاظ على نفسه أوّلًا، أن يعرف كيف يكون خيِّرًا، وليس شرّيرًا، ومتى يستخدم هذه الصّفة؟ ومتى لا يستخدمها حسب الضرورة؟»(21).
وفي غالب الأحيان، هناك صفات إيجابيّة يُمدح لأجْلها الرّجال، وبخاصّة الأمراء مثل: السّخاء، والعطاء، والعطف، والثّقة، والشّجاعة، والصّراحة، والجدّيّة، والتّديّن؛ وصفات سلبيّة يُلامون عليها مثل: الشّحّ، والجشع، والقسوة، والكذب، والاستهتار، والغطرسة، والمكر، وعدم التّديّن؛ فلمَّا كان عدم التّحلي بالأشياء الإيجابيّة كلّها أمرًا ممكنًا، لزم على الأمير، عوض ذلك، الاتّصاف بالحكمة، وتفادي أيّة نقيصة تُفقده منصبه وسمعته.
بدأ مكيافيلي بصفتي السّخاء والشّحّ؛ وفيما يخصّ سخاء الأمير من الأفضل له أن يكون كذلك، ليس بمفهوم العامّة؛ لأنّه في هذه الحالة سيفقد كلّ شيء، ويلتجئ لفرض الضّرائب وجمع الأموال، فيَجُرّ عليه سخط الناس، ويَعْلَمُ جيّدًا أنّه يحتاج المال دائمًا للأعمال الكبرى، والإنجازات العظيمة دون الاعتماد على الشّعب. فالسخاء المفرط يقود إلى الفقر والحقارة. وأما شحّ الأمير، فيجب عليه ألّا يهتمّ لهذا الوصف؛ لأنّ الفقر مع الإنفاق هلاك، فالشّحّ خصلة سيئة، مع ذلك تمكّنه من الاستمرار في الحُكم، ولكن لا يطبّقها مع العسكر والقوّات المسلّحة؛ إذْ عندما يقترن الفشل بالمال، يمكن إصلاح الأخطاء، وتكون دائمًا كلّ محاولة جديدة معقولة؛ والعكس صحيح تمامًا مع أنظمة الدفاع في الدولة كالجيش والقوات المسلّحة وما ارتبط بهما.
وفي السياق نفسه، يتحدّث مكيافيلي حول صفتين أخريين هما الشّدّة واللّين، لينصح الأمير الاتّصاف بالرحمة لا القسوة، مع الحرص على عدم استعمال الرحمة في الجانب السلبي، بما يضيع معها الحُكم والدّولة ويُهان الشّعب؛ لأنّ القسوة مع تحقيق الأماني والرّفاهيّة للشّعب، أفضل وأحسن بكثير، فيصير لُبّ القسوة رحمة.
غنيّ عن القول إنّ براعة مكيافيلي تبدو في كونه دقّق في سيكولوجيا الناس والحشود؛ فالشّعب ليس بالخيِّر دائمًا، بل يذهب مع الأهواء التي تستميله حسب الوضعية الراهنة التي يوجد فيها، فتارة يكون صالحًا وتارة أخرى يكون ماكرًا وهكذا. وهذا التّذبذب نفسه، يسوّغ للأمير أن يختار، هو الآخر دون حرج، بين رحمته وقسوته حسب الوضعية والمنزلة.
ويبقى السؤال المطروح: هل على الأمير أن يكون محبوبًا أم مهابًا؟ يقول مكيافيلي: «الجواب أنّه ينبغي على الإنسان أن يكون محبوبًا ومهابًا في الوقت نفسه، ولمّا كان من الصعوبة الحفاظ على الصّفتين معًا، فإنّ المهابة في هذه الحالة أفضل بكثير إذا كنّا لا نستطيع إيجاد الصفتين معًا»(22)، فالصداقة التي تُشترى غير مأمونة أغلب الأحيان، ولن يستفيد منها وقت الشّدّة؛ إذ الناس يجرؤون الإساءة لمن يحبون، ويتردّدون عند من يهابون. لذا فالأمير المُهاب يتجنّب الكراهية، وإن لم يحصل على الحبّ. في حين أنّ الشدّة مطلوبة بين أفراد الجيش، وبدونها يفقد الأمير سمعته التي يضيع بزوالها كلّ شيء في الدولة. ينصح مكيافيلي الأمير، بألّا يهدر وقته في أشياء تأتي في أوانها، فيقول: «إنّ الناس يحبّون بمحض إرادتهم الحرّة، لكنّهم يخافون حسب رغبة الأمير، وعلى الأمير العاقل أن يعتمد على ما له من سلطان، وأن يسعى لتجنّب ما يسبّب له الكراهيّة المدمّرة»(23).
ينتقل مكيافيلي بعدها للحديث عن صفة ثالثة، صون الأمير العهد ومُخالفته. فلا شكّ أنّه ينال الثناء بصون العهد والاستقامة، ولكن أعظم الأمراء شهرة وإنجازات تاريخيّة، كانوا من الذين خالفوا العهود، واستعملوا المكر في الوقت والمكان المناسبين لا غير. إذ حِفْظ عهد ضدّ مصلحة يكون مَهْلكة، واستمرار وفاء عهد انتهت أسبابه مضيعة، ويكون التّصرّفان مستساغين جدًّا باختلاق أعذار مقبولة.
وارتباطًا بالموضوع نفسه، كان القتال ذا سبيلين: الأول تحكمه قواعد وقوانين، وهو سبيل البشر، أما الثاني فلا تحكمه إلا القوّة، وهو سبيل الحيوانات المفترسة. حسب مكيافيلي يلجأ الإنسان للطريقة الثانية غالبًا، رغم دناءتها؛ فالأولى غير كافية لتحقيق النصر، وعلى الأمير معرفة متى يستخدم أحد السبل في الوقت السّانح، فهما متجادلان دائمًا. نصل عند هذا الموضع إلى أشهر مقطع أسال المداد، حيث يقول فيه مكيافيلي: «ولهذا السبب كان الأمير مضطرًّا إلى أن يعْلم جيّدًا كيف يتصرّف كالحيوان، فهو يقلِّد الثّعلب والأسد، لكن الأسد لا يستطيع أن يحمي نفسه من الفخاخ، والثّعلب غير قادر على مواجهة الذئاب، على المرء إذن أن يكون ثعلبًا ليواجه الفخاخ، ويكون أيضًا أسدًا ليخيف الذئاب»(24)، ونلاحظ كيف تأدّب مكيافيلي مع الأمير، في الجملة الأخيرة، لكي لا يصفه مباشرة بأسماء الحيوانات – ذئب، ثعلب، أسد – فاستعمل كلمة «المرء» عوض كلمة الأمير حشمة وتهذيبًا. وفي سياق مرتبط «لم يقل مكيافيلي على القادة أن يتصرفوا بصورة غير أخلاقية، بل قال إنّه على الأمير، حتى يحمي مصالح المجتمع أن يفعل ما يتطلبه الأمر من أجل المصلحة العامة، ومن ثم يجب وضع التصرّف في سياقه الصحيح، وعدم تحليله استنادًا إلى عالَم أخلاقي أسطوري»(25).
ومن هذا كلّه، يكون الأمير حسن الخلق صادقًا متديِّنًا، ولكنّه يتحوّل إلى أضداد هذه الصفات عند الحاجَة، بمعنى إنّ الصفات الإيجابية هي السائدة، ولا يكون التصرّف السلبي – وهو الوجه القبيح الوحيد للسياسة – إلا نادرًا وقت الضرورة، عملًا بالمبدأ الآتي: إنّ الخير يسود على الشر.
وبينما يحاول الأمير الفوز بالإمارة والحفاظ عليها، هذا الفعل الأخير هو المقياس للنجاح؛ إذ الحفاظ على الدولة، وأمْنها، واستقرارها، ورغد عيشها، يحكم عليه العامة بالإيجاب، ويُقْبلون عليه بالمدح، ولو كانت الطرق غير نزيهة، والقلّة القليلة التي تفهم هذه الحِيَل لن تسطيع الكلام، ما دام الشّعب ملتف حول الأمير يبجّله. كان مكيافيلي حريصًا على التّلويح إلى أنّ الفصل – في معرفة الشّعب لطُرق تسيير الدّولة – نصيحة مفيدة، لمنع الأتباع من استيعاب ماهية القادة المُلتبِسة بالأخطاء، فيقول: «في كافة أعمال البشر – خاصة الأمراء – فإنّ الغاية تبرّر الوسيلة، وهذا حُكم لا يمكن نقضه»(26)، وهي العِبارة الشّهيرة التي تلخِّص الفلسفة الواقعية السياسية.
وفي السياق نفسه، وجب على الأمير تجنّب الأفعال التي تجعل الناس يكرهونه، مثل الجشع، واغتصاب ممتلكات الرعيّة، وكذلك يتجنّب الأفعال التي تجعل منه مُحْتَقَرًا كالجبن والضّعف والطّيش، ويحاول الحفاظ على صورته العظيمة بالاقتدار والمجد.
وعلى الأمير الخوف من شيئين: الأول في شؤونه الداخلية بالمؤامرات والفتن إذا كان مكروهًا، ويتجنّب هذا الأمر بكسب حبّ الشّعب. والثاني في علاقته بالقوى الأجنبية، ويحمي نفسه بالأسلحة والعتاد والتّنظيم، فيقول مكيافيلي: «على الأمير أن يحترم نبلاء ولايته، لكن عليه أيضًا ألّا يجعل عامة الشّعب يعادونه»(27).
لأنّ ثالوث: الشّعب، والجيش، والنّبلاء، لا يمكن التحكم فيه، إذ الشائع التودّد للجيش على حساب الشّعب والنبلاء. فالجيش يستطيع فعل ما لن يفعله الشّعب والنبلاء، وفي هذا الصدد يقول عبد الله العروي: «فما يستحق اللّحظ هو إنّ الكاتِب [يقصد مكيافيلي] لا يتخيّل، للحظة واحدة، وضعًا يكون فيه الأمير صديقًا لطبقة الأشراف وللشّعب معًا؛ فعليه الاختيار، إذ السياسة تدور دائمًا بين طرفين لا أكثر»(28).
ولكي يتجنّب الأمير الاحتقار والكراهية، التي تحدّثنا عنها قبل قليل، عليه السعي وراء نيل الشهرة عن طريق الأعمال العظيمة المثيرة للدّهشة، مثل: كسب حرب كبيرة، وتجديد إيجابي للأوضاع السياسية، وتنظيم الجيش واستمالته، زاستعمال الدّين في الحملات الحربية؛ وغيرها.
إعلان العداء صراحة لدولة أو لشخص أفضل من الحياد المُبْهَم؛ لأنّ أيّ منهما عندما يحتاج الأمير مساعدته لن يكون مستجيبًا، لقراره السابق الغامض، «فكلّ منتصر لا يريد أصدقاء مشكوك في أمرهم، لم يمدّوا إليه يد المساعدة وقت الشِدّة، كما إنّ المقهور لن يقابلك أيضًا لأنّك لم تستلّ سلاحك، وتخاطر بنفسك من أجل قضيّته»(29)، فنستنتج حسب مكيافيلي أنّ الأمير الضعيف يفضل الحياد تفاديًا للأخطار، الحلّ الذي يوقعه في الهلاك. كذلك على الأمير ألا يتحالف مع الأقوى منه للاعتداء على غيره، لأنّه سيظل تحت رأفته دائمًا. فلِنيْل الشهرة، يجب على الأمير تكريم المواطنين البارزين في المجالات كلّها، كما يجب عليه إلهاء شعبه بالمواسم والمهرجانات السّنويّة المختلفة، لكسب جميع طوائف وفئات رعيّته.
تبقى مسألة أخيرة في شخصية الأمير، حول ما إذا كانت القلاع والأشياء الأخرى التي يحتمي بها مفيدة أم ضارّة؟ في هذا الصدد، ينصح مكيافيلي الأمير بتسليح بعض رعاياه، إنْ كانوا عزّلًا، ليزيدوا من إخلاصهم له، وإذا قام بالعكس ظهر غير واثق منهم. كذلك عليه عند كسب ولاية جديدة نَزْع سلاحها، ووضعه بين أيدي جنوده المخلصين من ولايته القديمة. من هنا تكون القلاع مفيدة وأماكن آمنة عند الهجوم المباغت وخاصة، حسب مكيافيلي، عند الخوف من الشّعب، وليس من الأجانب، فيقول: «وعلى هذا فإنّ فائدة القلاع تتوقّف على الفترة الزمنية التي تمرّ بها، وهي إنْ كانت ذات قيمة جيّدة في وقت ما، نجدها مضّرة في وقت آخر»(30)، ليستنتج أنّ الحصون تكون نافعة عند استخدامها الصحيح في الوقت المناسب، ولا تكون كذلك عند مَن يعتمد عليها ويثق بها لا بشعبه وكراهيته له. بمعنى أن يهتمّ الأمير بالشّعب وردّ فعله أكثر من الاعتماد على الأماكن والقلاع، فلو احتمى الأمير بها وكان له شعب يبطن غير ما يظهر، سيكون هو أول ضحية فيها؛ لأنّ الشّعب نفسه من يحمي القلاع، وليس الجدران الإسمنتية الكبيرة، ولا الأبواب الحديدية العملاقة.
المحور الرابع: الحاشية المقرّبة وتوحيد إيطاليا من الفصل 22 إلى الفصل 26
وفي المحور الأخير، الذي ضمّنتُه خمسة فصول الأخيرة من كتاب الأمير، يتحدّث مكيافيلي عن الحاشية المقرّبة من الأمير وتوحيد إيطاليا، وينصحه كما يلي: يجب على الأمير اختيار الوزير الأول في حكومته بعناية واهتمام؛ فشخصيّة الحاكِم تُقاس بالأشخاص المحيطين به، فإن كانوا مخلِصين، نقول: الأمير ذكي في اختيار حاشيته، وإذا كان العكس، سيوصَف بإساءة الاختيار لقلّة دهائه. لذا فالوزير الأول يسهل تمييزه، فإذا كانت آراؤه تخدم الصالح العام؛ فهو مخلِص وجيّد، وإذا كانت أفكاره تخدم شخصه؛ فلا يمكن الاعتماد عليه، إذْ وجب على «مَن يمسك زمام الأمور في ولاية غيره، أن يفكّر في الأمير فقط، ولا يفكّر في نفسه أبدًا، وألّا يهتم بشيء سوى ما يخصّ الأمير»(31). كان من واجب الأمير مكافأة الوزير العبقري الفذّ، بتكريمه وتقديم الهدايا له، وإسناد المهام الكبرى إليه حتى تستمرّ العلاقة الإيجابية بينهما في العمل، والعكس صحيح.
وفي السياق ذاته، يجب على الأمير تجنّب المتملّقين الذين يمتلئ بهم كلّ بلاط، كما أكّد مكيافيلي نفسه، وهم كثرة. هذا النّوع وصفه مكيافيلي بوباء الطّاعون، الذي يسري داخل جسم الدولة بأكملها، ولا يستطيع الأمير اتّـقاءه إلا بصعوبة. ولكي يتجنّب هذا الوباء، يقوم الأمير بتحديد فئة يمنحها حرية الكلام والحديث، ولا يجب عليه السّماح لكلّ من هبّ ودبّ، قول ما يحلو له أو سماع كلامه، يقول مكيافيلي: على الأمير «أن يعمل بتأنّ ويفكّر جيّدًا، وأن يكون حازمًا فيما يتّخذه من قرارات، ومن يفعل غير ذلك أما أن يؤدّي به التّملّق إلى التّعجّل، أو أنّه لا يستقرّ على رأي أبدًا، ونتيجة كلّ ذلك أنّه يفقد اعتباره وهيبته»(32).
من هنا يظهر جليًّا أنّ الأمير يطلب استشارة حاشيته عندما يحتاج الاستشارة، فيسأل بحنكة ويستمع بتأنّ، وينفعل على كلّ مَن عرف الحقيقة وأخْفاها؛ فالأمير له صلاحيّات كبرى للاستفادة من الاستشارة والنّصح على هواه ورغبته، وبذلك «تعُود النّصائح الحكيمة لأيّ ناصح كان إلى حكمة الأمير، ولا تُعزى حكمة الأمير إلى ما يتلقّاه من نصائح صالحة»(33)، لنلاحظ مرّة أخرى معنى هذا الكلام، الذي سعى فيه مكيافيلي ليثبت أنّ الأمير تُنسب له الأعمال الجيّدة، وإن كان مصدرها غيره، فيجب على الحاكم أن يكون نبيهًا سديد الرأي أمام عامة الناس؛ بحيث: إذا قال الأمير فذاك، وإذا قال غيره فأصاب، فقد قال الأمير!
ومع ذلك، يبقى للحظ دور هامّ في العلاقات البشريّة، فَنِصف الأعمال يحكمها الحظ، والنّصف الآخر تحكمها الإرادة، كما أكّد مكيافيلي، وشَبَّه في الآن ذاته الحظ بالنّهر الهائج سريع التيّار، قالع الأشجار، هادم المباني، الذي نتحكّم فيه ونتصدّى له بإقامة السّدود ومدّ الجسور حين يكون هادئًا، حتى إذا هاج فجأة لن يكون ذا خطورة تُذكر. والشيء نفسه في تعامل الأمير عند تمتين العلاقات، ووضْع الأسس، وفرض القوانين، فإنّه سيتصدّى لكلّ حظ مفاجئ. أما إذا اعتمد على الحظ اليوم ونجح، فإنّه سيخسر غدا إذا لم يأته. لذلك يجب أن تكون تصرفات الأمير مناسبة ومتطلّبات العصر، كي لا ينساق كلّيًّا خلف الحظ، الذي قد يأتي، وقد ينتظر سرابًا لا يأتي بالمرّة.
ولهذه الأسباب السابقة كلّها، التي نصح فيها مكيافيلي الأمير الجديد بأخذها في الاعتبار والحسبان، أضاع أمراء إيطاليا ولاياتهم سلفًا؛ فلا يجب الاعتماد على الآخرين لتقويّة البلاد والدفاع عنها، فكلّ شيء لا يعتمد على قدرات الأمير يضيع؛ إذْ عدم الاهتمام بالشّدائد وتوقعها، يكون أمرًا سلبيًّا حين تتغيّر الأحوال فجأة؛ لأنّ الأمير يصبح هاربًا خائفًا غير مدافع عن نفسه، خصوصًا إذا كان الشّعب مُعاديًا كارهًا له. وكان الجيش معدوم الخبرة فيما يتعلق بالسيطرة على الأوضاع. والشيء الأكثر أهمّيّة كذلك، ويحسب له ألف حساب، فئة النّبلاء إذا وجد لها مناصرون كثر.
ليختم مكيافيلي الكِتاب، ويختم التّجربة بدعوة إلى تحرير إيطاليا من البرابرة، «فقد كان مُصِرًّا على أن تحتفظ فلورنسا بحرّياتها، وكان يرغب في أن يتمكّن أمير إيطاليّ خليق بهذا الاسم، من توحيد أقصى ما يمكن من أراضي شبه الجزيرة، لكي يكون قادرًا على طرد البرابرة منها»(34)، لهذا يناشد مكيافيلي، ويدعو أمير فلورنسا الجديد لورينزو دي بييرو ميديتشي ذاك العصر، توحيد دولة إيطاليا كلّها، التي نُهبت، وغُلبت، وهُزمت، ومُزّقت أشلاء. وإنْ كانت الأوضاع تبدو غير مواتية، فعليه التحلّي بالشجاعة والإقدام، وإرث أسرته العريق في الحُكم والسّلطة، وحتى القوّة الاقتصادية والمالية.
وعليه، فإيطاليا تستنجد بالله ليخلّصها من قسوة الغُزاة، ولن يكون هذا التّحرير إلّا من طرف الأمير الجديد، بحكمته ونفوذه ومكانته، يقول مكيافيلي موجّهًا كلامه للأمير: «وهذا الأمر لن يكون شاقًّا، لو وضعتَ نصب عينيك ما ذكرتُه من أعمال الرّجال وقصص حياتهم […]، كما إنّ الله في عونك لأنّ قضيتَك عادلة»(35)؛ ويبدو جليًّا أنّ مكيافيلي يبجّل الأمير، ويوقد فيه الحماسة لهذا العمل الجليل، الذي سيجعله موضع إعجاب واحترام، مقتفيًا آثار العظماء من الحكّام الذين حرّروا بلدانهم، ويزيد من حماسه قائلًا: «لهذا لا يجب أن تفوت هذه الفرصة دون اقتناص حتّى تجد إيطاليا من يحرّرها أخيرًا»(36).
خامسًا: خاتمة
كان مكيافيلي، وما يزال، يُلهم عديد الدّارسين والحكّام على السّواء، لِما كانت أفكاره الجرّيئة، التي طرحها قبل خمسة قرون، مازالت تُسيل مداد البحث والتحليل. فلم يكن فِكر الرّجل مهتمًّا بثالوث الأمراء والشّعب والجيش فقط، بقدر ما كان يستهدف حلّ إشكاليات فكرية وفلسفية عظمى.
وفي نهاية هذه الدراسة، سنقتطف أهمّ الاستنتاجات الكبرى، كما يلي:
- بداية فصل السياسي عن الديني، أو بتعبير آخر، مكيافيلي واللّمسات الأولى لفصل الدين عن السياسة.
- تساوي الخير والشر في السياسة، وإن بدا عسير الفهم، هو صلب ولبّ فلسفة مكيافيلي، ويتمّ التّأرجح بينهما حسب الحاجة لكلّ واحد منهما، إذ السياسة لا نقرأها بالخير والشر، بقدر ما يمكن القول: إنّ الواقعية السياسية تتحرّك بين الموضعين؛ بمعنى حينما يُطالِب مكيافيلي الحاكِم بضرورة سلوك «شر» ما، فقد يكون خيرًا على المستوى العام، فالخير والشر مسألة نسبيّة. وبتعبير أدقّ: الخير واحد: الإبقاء على السُّلطة، والشر واحد: الإبقاء على السُّلطة كذلك. فكيف سيتمّ حلّ هذه الإشكالية؟
- السياسة ما وراء الخير والشر على طريقة نيتشه؛ فمكيافيلي بلور الفكرة قبل الفيلسوف الألماني نيتشه؛ إذ كانت أفكار مكيافيلي مثابة إرهاصات أولى لتدشين القول في تساوي الخير والشر، قبل أن تصبح الفكرة سائدة في نهاية القرن التاسع عشر ميلادي مع نيتشه في كتابه بعنوان: «ما وراء الخير والشر».
- ما علاقة مكيافيلي بِرُواد التّعاقد الاجتماعي؟ لقد أعلن الواقعية السياسية، ولم يعلن التّعاقد الاجتماعي، ولكن المثير في الأمر أنّ مكيافيلي دشّن أو وضع المفارقة التي ستحلّها فكرة التّعاقد الاجتماعي، كيف ذلك؟ أصبح الخير والشر عند مكيافيلي غير واضحين، بمعنى أنّنا عندما نقبل بالوضعية السياسية فنحن نستسلم للشر، وعندما نبحث عن الأخلاق في المدينة الفاضلة فنحن نتعامل بالخير، وهنا تستتر قمّة التّناقض السياسي. وهو الإشكال الكبير والصّعب الذي طرحه مكيافيلي، في انتظار حلّ سيكون مع رواد التّعاقد الاجتماعي في القرنين السابع عشر والثامن عشر ميلادي أمثال: توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو، ومما يؤكد ذلك، المبدأ الذي قامت عليه أطروحة الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، التي مفادها: إنّ الإنسان ذئب لأخيه الإنسان.
- ظلّ اسم مكيافيلي في تصور القارئ العربي – وحتى القارئ الغربي قبله – ذا دلالة واحدة: الانتهازية والاستغلال بكافّة أنواعهما. فمثلًا لا حصرًا، ما نجده في هذا الاقتباس واصفًا «ظهور بعض المفكرين السياسيين البراجماتيين مثل مكيافيلي، والذي كان مدعومًا من بعض ملوك أوروبّا الطّامحين للانفصال عن سلطة الكنيسة، وفصله بين الدين والسياسة، وترسيخه للقيم السياسية الانتهازية، وتعريفه السياسة بفنّ الممكن أو فنّ الوصول إلى السّلطة، وكيفيّة الحفاظ عليها بكلّ السّبل الممكنة»(37)، إلى درجة أنّ المكيافيليّة في المعاجم العالميّة كـ: le Robert و Larousse، نجدها تدلّ على الانتهازية والوصولية.
- منطق العمل والنظر في التّعاطف مع الشّخص: علينا أن نتدرّب على الفصل بين الشّخص والأفكار، فمقدار وحجم المعاناة التي عانها الرّجل باعتباره إنسانًا، خرج من نواتها بكتاب قيّم جدًّا، بالتّالي كان لزامًا أن نفصل بين مكيافيلي الإنسان، والمكيافيليّة التي نُعتت بأبشع الصّفات، هناك اختلاف يجب أخذه بعين الاعتبار.
- غنيّ عن القول، ارتباط التطور السياسي في أوروبا، كما يؤكّد محمد عابد الجابري، بالصّراع بين الكنيسة سلطة الله العليا، والأمير سلطة الشّعب الأدنى، الذي أدّى إلى قيام الحداثة السياسية. وبانتهاء هذا الصّراع صار مصدر السلطة السياسية الشّعب، لا الكنيسة، ولا الحق الإلهي المزعوم للأمير. مع العلم أنّ الجابري يركّز في هذا الصّراع الأوروبي السياسي، وما تمخّض عنه من دولة ذات مؤسَّسات وقوانينّ قلّ نظيرها في التّاريخ الإنسانيّ. أنّه مُقترن بنهوض النّظام الاقتصاديّ الرأسمالي الضّخم – مناجم الملح البابويّة وعائلة ميديتشي التي أدارت اقتصاد المناجم – وإن لم يكن بشكل مباشر فقد كان بطريقة أو بأخرى تزامنًا مع هذه الأحداث، يقول الجابري: «إذ من المعروف أنّ قيام الحداثة السياسية في أوروبا كان نتيجة للصّراع الذي احتدم فيها بين الأمير والكنيسة، من جهة، وبين الأمير والقوى الاجتماعية البرجوازية الصاعدة من جهة أخرى»(38). ما سعى إليه مكيافيلي، أنّه شرح الأوضاع سياسيًّا كما حدثت في الواقع، ووصف الأشخاص أيضًا كما كانوا حقيقة ليس كما أراد، هذا هو الفرق الشّاسع في سوء فَهْم المكيافيليّة عند البعض. وتجدر الإشارة أنّ الفئة الحاكمة – فئة النّخبة – أصلًا قليلة في العالَم بأسره، لذا يُستشفّ أنّ مكيافيلي كان ذا بصيرة نافذة وفكر متّقد، بما أنّه تعامل مع هذه الشريحة وحاججها بمنظور فكري.
- يظهر الكِتاب، للوهلة الأولى، عبارة عن نصائح ذهبية للأمير، كي يحافظ على حُكمه ويقمع كلّ محاولة للإطاحة به، ولكنّه في الحقيقة تنوير للشّعب، وفتح عيونه على كافّة المسائل السياسية التي تُدار بها الدّول والحكومات، ومعرفة الخبايا والخفايا. لكي يكون بمقدور الشعب الحقيقي – ليس أصحاب المصالح الذين يرمون منشفة الغدر في أي لحظة – التّدخّل في الأمر الذي يروْن أنّه لا يخدمهم لتصحيحه وتقويمه؛ فالكتاب كان سلاحًا ذا حدّين.
الإحالات والهوامش
(1) الأمير، نيكولو مكيافيلي، ترجمة أكرم مؤمن، مكتبة ابن سينا للطبع والنشر، القاهرة، ط1/2004م، ص:19.
(2) المرجع نفسه، والصفحة نفسها.
(3) المرجع نفسه، والصفحة نفسها.
(4) المرجع نفسه، ص:24.
(5) المرجع نفسه، ص:26.
(6) المرجع نفسه، ص:30.
(7) مملكة داريوس حَكَمها داريوس الكبير (336ق.م-330ق.م)، ثالث الملوك الفارسيّين للإمبراطوريّة الأخمينيّة. تولّى الحُكم فيها عندما كانت في أوجها، وامتدّت من غرب آسيا والقوقاز إلى أجزاء من شمال إفريقيا بما فيها مصر وليبيا والسّودان.
(8) الملِك الإسكندر الثالث المقدوني (356ق.م-323ق.م) تلميذ أرسطو، قام أثناء حُكمه بتوحيد اليونان، والتّغلّب على الإمبراطوريّة الفارسيّة في أشهر المعارك ضدّ مملكة داريوس.
(9) الأمير، نيكولو مكيافيلي، مرجع سابق، ص:43.
(10) روميرو دي أوركو عمل قائدًا عسكريًّا تحت قيادة سيزار بورجيا سنة 1500م، في منطقة رومانيا التّاريخيّة. رحبّ النّاس في البداية به، إلّا أنّه سنة 1502م، بدأت الجماهير ترفضه بسبب أعماله الوحشيّة عندما منحه سيزار السّلطة المُطْلقة، فكان كبش الفداء وتمّ إعدامه وتعليق رأسه في ساحة وسط المدينة.
(11) مقاطعة تاريخيّة في الشّمال الشّرقيّ لإيطاليا، وهي حاليًّا مدينة بولونيا.
(12) القيادة مقدمة قصيرة جدا، كيث جرينت، ترجمة حسين التلاوي، مراجعة هاني فتحي سليمان، مؤسسة هنداوي، ط1/2013م، ص:44.
(13) الأمير، نيكولو مكيافيلي، مرجع سابق، ص:49.
(14) القيادة مقدمة قصيرة جدا، كيث جرينت، مرجع سابق، ص:44.
(15) الأمير، نيكولو مكيافيلي، مرجع سابق، ص:55.
(16) المرجع نفسه، ص:56.
(17) المرجع نفسه، ص:63.
(18) المرجع نفسه، ص:61.
(19) المرجع نفسه، ص:80.
(20) المرجع نفسه، ص:47.
(21) المرجع نفسه، ص:80.
(22) المرجع نفسه، ص:86.
(23) المرجع نفسه، ص:88.
(24) المرجع نفسه، ص:89-90.
(25) القيادة مقدمة قصيرة جدا، كيث جرينت، مرجع سابق، ص:44-45.
(26) المرجع نفسه، ص:91.
(27) المرجع نفسه، ص:95.
(28) ابن خلدون ومكيافيلي، عبد الله العروي، ترجمة خليل أحمد خليل، دار الساقي، ط1/1990م، ص:52.
(29) الأمير، نيكولو مكيافيلي، مرجع سابق، ص:109.
(30) المرجع نفسه، ص:102.
(31) المرجع نفسه، ص:113.
(32) المرجع نفسه، ص:114-115.
(33) المرجع نفسه، ص:116.
(34) ابن خلدون ومكيافيلي، عبد الله العروي، مرجع سابق، ص:23.
(35) الأمير، نيكولو مكيافيلي، مرجع سابق، ص:123.
(36) المرجع نفسه، ص:125.
(37) معالم النظام السياسي الفلسفي-الإسلامي-العلماني، أيمن المصري، منشورات المحبين، مركز الهدف للدراسات، ط1/2012م، ص:129.
(38) العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4/2000م، ص:18.