الأجزاء السابقة من سلسلة مقالات «مفهوم الصورة»:
(6)
الصورة هي إذن الدَّافع الرُّؤيوي، أو الرغبة في النظر، أيًّا كانت ترجمات تلك الرغبة: فضول معرفي، سواء كان العلم قد تأسَّس على بداهة النظر بالملاحظة والتجربة، أم إغواء فنِّي ومسرحي ووجداني يُبرز العرض الجمالي للجسد، تحت طائلة ما سمَّاه التحليل النفسي مُتعة النَّظر. غير أن هذا الدَّافع الرُّؤيوي لا يبقى في عتبة الميول والمحرِّكات، بل ينتهي بأن يكتسب «أبْسْتَمَة» أي معرفة من شأنها أن تتشكَّل في علم، وتتركَّب في مصطلح أو معجم، وتدلُّ على حقل أو مجال. لأجل ذلك تشكَّلت البوادر الأولى لما سُمِّيَ «علم الصورة» أو بالقول الأعجمي «أيْقُونُولُوجْيَا» أو علم الأيقونة. نعرف بأن الغالب في تاريخ البشر هو سلطان الأفكار منذ أن مدَّها أفلاطون السَّند العلمي وإلى غاية ماركس الذي عيَّر فيها مفاعيل التسلُّط والاستلاب تحت مسمَّى «علم الأفكار» أو الأيديولوجيا. هل يمكن القول بأن نهاية عالم الأفكار كانت بإيعازٍ من ماركس؟ يمكن ادِّعاء ذلك إذا علمنا بأن النظرية الماركسية تواقتت مع ظهور الفوتوغرافيا حيث تكون «الغرفة المظلمة» معكوسة الوظيفة، أي للحصول على صورة فوتوغرافية طبق الواقع، فإن ما يعتمل داخل العُلبة الفوتوغرافية هو مقلوب الواقع.
فما كان على ماركس إلا أن يستلهم من هذا الاختراع الجديد في زمانه (الفوتوغرافيا)، بأن يقلب هيغل ويجعله يمشي على رجليه بعد أن رأى بأنه يمشي على رأسه على شاكلة البهلوان في السِّيرك، ويقلب الأفلاطونية رأسًا على عقب، بالإعلاء من شأن العالم المادِّي بصفته «الأساس والمبدأ» لكل نظرية اجتماعية وفلسفية، وأن هذا الأساس المادّي هو الذي يُحدِّد طبيعة الأساس الفكري والوعي الطبقي. هل أعاد ماركس للصورة استحقاقها التاريخي والفلسفي بعد أن كانت الفكرة تتربَّع على عرش المُلك البشري؟ هناك نصيب من الصَّواب في هذا الادِّعاء الذي يمكن التحجُّج به على أن الصورة هي أقرب إلى الأساس المادِّي، عبر تجليَّات الأيقونة، وهي أكثر انفتاحًا على مفاعيل الخيال والإحساس واللَّمس واللَّون، فتكون بذلك أقرب إلى الفن والأدب، مجالي التجربة الإنسانية بامتياز؛ على العكس من الفكرة التي مالت نحو التأمُّل الخالص في ظواهر العالم وموضوعات التاريخ، والتركيب المنطقي لسلسلة الاستدلالات أو قواعد التفكير الصحيح.
- أيْقُونُولُوجْيَا 1: الأمْثُولَة وَالرَّمْز
لم يكن العَوَد الأبدي للصورة من البدائي-الرسَّام في الكهوف والمغارات (وليس فقط البدائي-الصيَّاد-القاطف) إلى السينمائي والإعلامي بالزَّخم المعاصر لمفاعيل الصورة وقراصنتها المذهلين مجرَّد بداهة تاريخية دعَّمتها الحجَّة الفكرية. يمكن القول بأن الثلاثي «ماركس-نيتشه-فرويد» الذي احتفى به ميشال فوكو بأنه ثلاثي «الثورة الكوبرنيكية» المعاصرة في «القلب الفوتوغرافي» لنظام المعرفة منذ أكثر من 2000 سنة بإقحام الارتياب في صُلب اليقين، هو بالفعل ثلاثي العودة الصَّاخبة للصورة عبر الأساس المادي لنظام العالم (ماركس)، والأصل الجسدي لنظام المعرفة (نيتشه)، والمستهل الاستـ(ـلـ)ـهامي للجهاز النفسي (فرويد). إذا لخصنا ذلك بفكرة واضحة، ما دام سُلطان الأفكار لم يهجر عالم الإنسان، نقول: الصورة هي «المبدأ الحيوي» للإنسان والعالم، على جميع الأصعدة الطبيعية، والميتافزيقية، والأنثروبولوجية. الصورة هي المبتدأ والمنتهى، التعالي والمحايثة، الأصل والفصل.
وُلد صاحب كلمة «أيْقُونُولُوجْيَا» في السنة نفسها التي ظهر فيها «الباروك» في إيطاليا، أي حوالي 1550م أو 1555م (منتصف القرن السادس عشر). سيزاري ريبا (Cesare Ripa) هو أول من أدرج الكلمة ليدل بها على مجموعة من الأمثولات (أليغُورْيَا)، أي المُثُل العُليا للفضائل البشرية أو تصوير هذه الفضائل في قصص هادفة تتَّخذ شخصياتٍ لها سيرة ومعيش. الأليغُورْيَا هي تصوير الأحوال البشرية في استعارات حيوانية (مثلًا، ابن المقفَّع أو دي لافونتين) من أجل غايات أخلاقية أو وعظية، بمعنى «تجسيد» الأخلاق في أوصافٍ معيَّنة تُحبِّب (الفضيلة) أو تُقزِّز (الرذيلة) والمراد منها الاعتبار. كذلك تجسيد العدالة أو المحبَّة أو الحكمة في نعوت بشرية. يُصوِّر ريبا مجموعة من العبارات في أمثولات، وفي وجوه أنثوية تُعبِّر عن موقف أو سلوك، أو بالتعبير الصوفي عن «حال» و«مقام». لنقرأ ما يقوله عن «الفكرة»: «حسناء سارحة في الهواء، ترتدي ستارًا شفَّافًا، يتوهَّج من رأسها لهيب، تُحيط بجبهتها حلقة مزدانة بالذهب والجواهر. في ذراعها صورة الطبيعة وهي ترضعها، وتشير إلى بلدٍ خلَّاب في الأسفل منها. في السماء، لأنها لامادية ومن ثمَّ ثابتة؛ سافرة لأنها مجرَّدة عن الحواس، والستار الشفَّاف هو خلوص الأفكار المتميِّزة عن حسيَّة الأشياء. تُشير الحلقة المزدانة بالذهب والجواهر إلى كمال الأفكار، وصيرورتها نموذج كل الأشياء. والبلد الخلَّاب المشار إليه في الأسفل هو العالم» (Ripa, Iconologia, fig.192, p.48).
أمثولة الفكرة عند ريبا
الأوصاف التي يُقدِّمها ريبا حول الفكرة لها كل النعوت الأفلاطونية في التجرُّد عن علائق الحس، والكمال، والخلوص، ولهيب الخواطر الذي يُذكي الذَّكاء ويندلع من الرَّأس، وستار لطافة الأفكار الذي يُميِّزها عن كثافة الأشياء الموجودة في الأسفل، في عالم المظاهر والتغيُّر. غير أن دهاء ريبا هو جعل الفكرة عبارة عن «صورة» وهو المبتغى من كل أمثولة: تحويل الأفكار إلى صور، والصور إلى عِبَر. من ثمَّ فإن «أيْقُونُولُوجْيَا» ريبا هي علم الصور الممكن أخذها أمثولة للاعتبار والاتعاظ. الأمثولة «تُري» قبل أن تحثُّ على «التفكير»: الرؤية سابقة على الفكر. لذا، جاء العنوان الكامل لكتاب ريبا: «أيْقُونُولُوجْيَا: شعارات أخلاقية شُرحت فيها مختلف الصور حول الفضائل والرذائل والعواطف والفنون والأمزجة والعناصر والأجرام السماوية». وماذا يقول ريبا عن الصورة نفسها؟ كما سبق لنا أن رأينا في المقالات السابقة، كان مدلول الصورة في الفكر الكلاسيكي هو «التقليد أو المحاكاة» (Imitation). يقول بشأن ذلك: «هي امرأة بحوزتها أقلام الرصاص في اليد اليمنى، وقناع في اليد اليسرى، وسعدان أمام قدميها. الأقلام هي وسائل الفن في محاكاة الألوان أو الشكل الذي صنعته الطبيعة أو الفن نفسه؛ ويُمثِّل القناع والسعدان محاكاة الأفعال البشرية؛ يحاكي السعدان الإنسان، والقناع سلوك الإنسان فوق المنصة» (Ripa, Iconologia, fig.159, p.40).
ينبري من عرض ريبا أن المحاكاة، التي تُمثِّل معنى الصورة منذ أفلاطون، لها علاقة وطيدة بالفن بالمعنيين التشكيلي والمسرحي: «أقلام الرصاص» للرَّسم، و«القناع» للتمثيل المسرحي. لكن ما سر وجود سعدان في أمثولة ريبا؟ يُمثِّل هذا الحيوان الفكاهة والرشاقة وغالبًا ما يُصاحب الحركات البهلوانية في السيرك. كان في الميثولوجيا المصرية العريقة يرمز إلى الكتابة، وفي الأيقونولوجيا المسيحية يحمل مرآةً. إذا جمعنا هذه السيميولوجيا الأيقونية الخاصة بحيوان السعدان، فهي تُمثِّل الصورة بامتياز: المحاكاة، المرآة، الكتابة (حروف مرقومة على الخلاف من الصوت ومن الفكرة). أشكال العرض مثل المسرح والسيرك والفن التشكيلي هي «مجلى» الصورة بامتياز.
تتراءى عبقرية سيزاري ريبا في تحويل الوجود البشري من فضائل ورذائل وأحوال وانفعالات (الشجاعة، العدل، الكبرياء، البخل، الصداقة، الكمال، إلخ) إلى «صُوَر» وليس فقط إلى «تصوُّرات» يتمثَّلها الذهن. ليس تاريخ إصدار الكتاب (1644م) محض الصدفة، أي في منتصف القرن السابع عشر. نحن في قلب العصر الباروكي بكل ثقله الفني والفلسفي، قوَّل ديكارت عبارته اللاتينية الشهيرة: «أتقدَّم مُقنَّعًا» (Larvatus prodeo)، وهو الذي تربَّى عند اليسوعيين، جهابذة الصورة في العصر الباروكي. ها هو ديكارت يتقدَّم مقنَّعًا، يحمل قناعًا، خشيةً أو تقيةً، وهو الذي في صدد تشكيل ما يُضادُّ عتمة الباروك والشك بأنوار العقلانية واليقين، يحمل رمز الصورة («القناع» في أمثولة ريبا) ضدَّ الصورة نفسها، مثلما استحضر الشك والارتياب والعفريت المضلِّل عناصر أساسية ليتخلَّص منها، ويتجاوزها باليقين. كان لا بدَّ لديكارت أن يجتاز ظلمات الباروك بالنور الفطري للعقل، ويحمل القناع احتراسًا وتوجُّسًا. على شاكلة أفلاطون أمام سحر السُّفسطائي، كان على ديكارت أن يُهذِّب الباروك الذي عاش في كنفه بمضادَّات حيوية من وحي العلم والحق. لم يرَ ملاذًا سوى في الفكرة، عطفًا على اللحظة الأفلاطونية.
- أيْقُونُولُوجْيَا 2: مِنَ الوَصْف إلى المنْعَطَف
إذا كان مبتغى الأيقونولوجيا كما تبلورت مع سيزاري ريبا هي تحويل المكتوب إلى المرئي، أي تحويل النص إلى صورة، فإن البوادر الأولى عند ريبا صارت معيارًا معاصرًا بشيوع الصورة عبر رموز معمَّمة في الإشهار والإعلام، وفي التوجُّه عبر إشارات المرور وإشارات السلوك في المتاجر والشوارع. قبل أن تصل الصورة إلى هذا المستوى المعمَّم على الحياة اليومية، كانت إلى وقتٍ قريب من اختصاص مؤرّخي الفن. بعد سيزاري ريبا، عمد آبي فاربورغ إلى استعمال لفظة «أيْقُونُولُوجْيَا» منذ 1912 ويقصد بها تحوُّلات الأشكال الفنية في التاريخ والطريقة التي يمكن بها استخلاص الاختلافات الأساسية في سياق تلك التحوُّلات. لأن في كل «أبِسْتِيمَا» (وحدة معرفية ذات بنية لاشعورية بمفهوم ميشال فوكو)، هناك مُحوِّل (switch) شبيه بالمفتاح الكهربائي يجعل الأثر الفنِّي يتحوَّل إلى أسلوب جديد عندما تندرج عوامل جديدة تُغيِّر من الرؤية إلى الحياة. لكن أكثر من الأثر الفني في أشكاله وأساليبه في الإطار الحصري لتاريخ الفن، كان سعي فاربورغ بالكلمة «أيْقُونُولُوجْيَا» الانتقال من تاريخ الفن إلى تاريخ الصورة: «كان موضوعه الصورة أكثر من العمل الفني نفسه، مما يضعها خارج حدود الجماليات» (Agamben, p.15).
في الأصل، كانت العملية «وَصْفِية» تحت كلمة «أيْقُونُوغْرَافْيَا»، بإبراز الخطوط والأشكال وتتبُّع التعاريج في الأعمدة واللوحات، وما يمكن لتلك الأوصاف أن توحيه بالنسبة لقيمة العمل الفني. الغرض هو إرساء «أيقونولوجيا الفُرُوق»، بالبحث عن التفاصيل وما يمكن لأيِّ تفصيل أن يُميِّزه عن غيره، علاوةً على دوام (survivance) تفصيل أسلوبي في تفاصيل أسلوبية جديدة. يُنبئ كل هذا عن الطابع «التحوُّلي»، إن لم نقل «الحرباوي»، للصورة في تاريخ الفن عبر الدلالات الجديدة التي يمكن أن تتَّخذها الرموز القديمة، مثل الرموز الدينية في الأساليب الدنيوية (في الفن الإيطالي لعصر النهضة). كذلك، يُولي فاربورغ أهمية كبرى للشروط المادية لتحوُّل الصور، أي الشروط الاجتماعية وما يمكن للدلالة الفنية أن تتَّخذها بالمقارنة مع روح العصر (Rampley, 1997, p.42-43).
لم تكن الأيقونولوجيا منسَّقة مع فاربورغ. لم تتَّخذ نسقية سوى مع إرفن بانوفسكي الذي رتَّب حقلًا كان مشتَّتًا، وصفيًا أكثر منه نظريًا، أيقونوغرافيًا أكثر منه أيقونولوجيًا. تُعدُّ محاولته: «دراسات في الأيقونولوجيا: مباحث إنسيَّة في فن النهضة» (1939)، إحدى المحاولات الفذَّة في إعطاء ملامح واضحة لهذا العلم المسمَّى «أيقونولوجيا» أو علم الصورة. الهدف منه تجاوز وصف الأيقونات والأشكال والأساليب نحو البحث عمَّا يُنتج المعنى في هذه المظاهر الفنيَّة. من ثمَّ فإن الأيقولونوجيا هي «منهج تأويلي» تميل إلى التركيب أكثر منه إلى التحليل (Panofsky, 1955, p.32)، وهي «شكل رمزي» بالمعنى الذي سنَّه فيلسوف الثقافة أرنست كاسيرر، والذي يقصد به: «طاقة الروح التي بوساطتها يقترن محتوى الدلالة الروحية بالعلامة الحسية الواقعية ويتلاءم معها بصورة ضمنية» (Cassirer, 1997, p.13). العلاقة بين الدلالة الروحية والعلامة الحسية الواقعية هي علاقة «رمزية»، حيث الجلي من الظواهر يحيل إلى الخفي من القوى الروحية والفكرية التي تُحرّكها.
نقف في الأيقونولوجيا منهجًا تأويليًا على ثلاث طبقات من المعنى أشار إليها بانوفسكي في «الدراسات» (Panofsky, 1939, p.5-8): 1. الطبقة الشكلية (وهي طبقة الأيقونوغرافيا) وهي الوقوف عند ظاهر الأشكال مثل الخطوط والألوان، وهي طبقة الدلالات المبدئية أو الطبيعية، يمكن مقارنتها بالمستوى الحرفي في النص المكتوب؛ 2. الطبقة الدلالية وهي طبقة الدلالات الثانوية أو المضامين، تقف عند باطن الأشكال من ملامح وإيحاءات وعلاقتها بالإطار العام للثقافة من أمثولات وتصوُّرات وقصص ووقائع، وتعادل المستوى الدلالي في النص؛ 3. الطبقة الرمزية (وهي طبقة الأيقونولوجيا) وهي الروح الثاوي في العمل الفني أو الطاقة الروحية بمفهوم كاسيرر التي تربط الظاهر بالباطن أو الجلي بالخفي، وتولج في عالمٍ من القيم والتقاليد والرؤى والانفعالات، وتعادل المستوى المضمر للمعنى في النص. يقول بانوفسكي: «أتصوَّر الأيقونولوجيا على أنها أيقونوغرافيا وقد صارت تأويلًا وعنصرًا أساسيًا من دراسة الفن بدلًا من أن ينحصر دورها في جمع البيانات والقيام بالإحصائيات» (Panofsky, 1955, p.32).
هذا التدرُّج في قراءة العمل الفني وفهمه (لأجل ذلك درس بانوفسكي العديد من اللوحات من الفن التشكيلي للنهضة الإيطالية) مهمٌّ في تبيان السلوك التأويلي للأيقونولوجيا من الشكل (المعطى المادي) إلى الفكرة (الدلالات الضمنية)، ثم من الفكرة إلى الصورة (المعنى المحايث). من ثمَّ لا يوجد فاصل أو قطيعة بين الشكل-الدال والمضمون-المدلول. الأيقونولوجيا منهجًا تأويليًا هي ممارسة رمزية تُبرز «الأيقوني» من المظاهر الفنية والظواهر الجمالية: «أيْقُونيَّة» (iconicity) كل مظهر أو ظاهرة هي ما تنطوي عليه من أغلفة رمزية تتطلب الكشف، لأنها تُخفي مجمل الشروط التاريخية والاجتماعية التي جعلت العمل الفني ممكنًا. لا يؤوَّل العمل الفني، أي لا يُفهَم، سوى في سياق حدوثه وبالمقارنة مع الذات الفاعلة والمنفعلة التي أوجدته، وهي ذات فردية وجماعية في الوقت نفسه، بمعنى «العبقرية» التي أوجدت العمل و«الذهنية» التي كانت سببًا في تفتُّق تلك العبقرية. لوحة من النهضة الإيطالية يفهمها أهلها في السياق الثقافي الجامع، لكن تبقى غامضة أو مستعصية بالنسبة لثقافة خارجية ليست لها ألفة بالمضامين الأيقونية لتلك اللوحة. إذا لخَّصنا المنهج التأويلي الأيقونولوجي كما تصوَّره بانوفسكي، يمكن اللجوء إلى الجدول الذي وضعه في هذا الشأن:
موضوع التأويل |
فعل التأويل | وسائل التأويل | المبدأ المقوّم للتأويل |
تشكيلات صورية ودلالات خارجية ومبدئية (طبيعية) | وصف صوري (قبل أيقونوغرافي) | خبرة عملية ومسح تاريخي | تاريخ وصفي للأشكال والأساليب، كيف تمَّ التعبير عنها بوساطة أشياء وأحداث ومفاعيل التلقي من أذواق وانفعالات |
تشكيلات عقلية لفضاء الصور والقصص والأمثولات؛ دلالات ثانوية (ثقافية) | تحليل صوري للأشكال والأساليب (أيقونوغرافي) | قراءة نقدية في الأعمال الفنية وفق معايير أسلوبية ومبادئ بنيوية ووفق ثيمات ومفاهيم | تاريخ تحليلي للأساليب والأنماط، والكيفية التي تمَّ فيها التعبير عن مضمون فني |
دلالات ضمنية أو مضمون من وراء اللوحة الخلفية للوقائع الاجتماعية والشروط البيوغرافية | تأويل إنسي لمجمل المضامين التي شكَّلتها الدلالات الأيقونوغرافية (أيقونولوجي) | خبرة حدسية | تاريخ نظري للتعابير الفنية التي تعكس الوقائع الاجتماعية، والقيم الإنسيَّة المتجسّدة في الأعمال الفنية |
لفهم هذا الجدول، يُقدِّم بانوفسكي مثالًا بسيطًا (نجد نظيرًا له وبصيغة أخرى في المجال الأنثروبولوجي الثقافي عند كليفورد غيرتز Clifford Geertz في «تأويل الثقافات»): 1. لنتصوَّر أن شخصًا أعرفه، وأصادفه في الشارع، ينزع قبعته لتحيَّتي. من وجهة نظر وصفية بحتة، ما أراه هو مجموعة من التفاصيل المتضافرة مثل الأشكال، والأحجام، والألوان التي تشكِّل الفضاء المرئي أمامي. الدلالة هنا هي دلالة مبدئية وطبيعية، سهلة الإدراك والاستيعاب، هي «دلالة الواقعة»؛ 2. عندما أدرك بأن نزع القبَّعة هو دلالة على التحيَّة فإنِّي ألجُ في فضاءٍ جديد من التأويل. أتجاوز الوصف الوقائعي والطبيعي نحو المدلول الثقافي وهو أن نزع القبَّعة هو تحيَّة غربية (تختلف عن المجالات الثقافية الأخرى التي لها أساليب أخرى في التحيَّة)، وهي دوام سلوكٍ من فروسية العصر الوسيط بنزع الخوذة. من ثمَّ فإني أدرك مدلول التحيَّة (إذا كنتُ أنتمي إلى الثقافة الغربية)، وهو مدلول ثقافي وتقليدي أو متَّفق عليه اجتماعيًا؛ 3. أخيرًا، يتَّخذ مدلول التحيَّة قيمة علمية بالنسبة للملاحظ الأنثروبولوجي الذي يربط ذلك بعوالم رمزية متشابكة وتخص تاريخ الرموز والأمثال والتقاليد الشعبية والرؤية إلى العالم (Worldview).
بناءً على هذا المثال البسيط الذي هو أساس التدرُّج في الدلالة مثل التنضيد الكرونولوجي (الزمني) للطبقات الجيولوجية، يقدِّم بانوفسكي جوهر التأويل الفني: ما قبل الأيقونوغرافي، ثم الأيقونوغرافي، وأخيرًا الأيقونولوجي. لم يُشيِّد بانوفسكي ذلك من عدم، بل قدَّمت له النظريات النفسية (نظرية الجشتلت أو سيكولوجيا الأشكال)، وفينومينولوجيا الاستشعار أو التعاطف (Empathy) جانبًا من البناء الأيقونولوجي للظاهرة الفنيَّة والجمالية. لا تُغيّر الكثرة المشهودة للظاهرة الفنيَّة والجمالية وحدتها المعقولة، أي أن الطبقات الثلاث لا تنفصل عن بعضها بعضًا، بل هي تُشكِّل وحدة العمل الفني. هي قراءات أو تأويلات بمستويات مختلفة: «ينبغي أن نضع في الاعتبار أن الفئات المختلفة والمرتَّبة التي تدل في الجدول الإجمالي على ثلاث دوائر من الدلالة مستقلة عن بعضها، تشير في الحقيقة إلى أوجه الظاهرة، أعني بذلك العمل الفني بوصفه كُلًّا واحدًا» (Panofsky, 1939, p.16-17).
- أيْقُونُولُوجْيَا 3: مِنَ المنْعَطَف إلى الاسْتِئْنَاف
النقد الموجَّه إلى بانوفسكي أنه جعل الصورة تحت سلطة النص باستعمال المعجم اللغوي في تحديد طبيعة الصورة وتجليَّاتها التاريخية في الفن والدين: الدلالة، والدال، والمدلول، والشكل الرمزي، والتأويل، والشبكة الدلالية، إلخ. تذهب الموجة الجديدة من نُظَّار الصورة نحو مجاوزة النموذج اللغوي بما سُمِّي ساعتها بالمنعطف الأيقوني (iconic turn) في تحدٍّ واضح لمشروع المنعطف اللغوي (linguistic turn) الذي أشرف عليه ريتشارد رورتي في كتاب جماعي. الأيقونولوجيا الجديدة هي أيضًا مجاوزة لأيقونولوجيا بانوفسكي؛ لأنها لا تكتفي فحسب بنقد النموذج اللغوي الذي استبدَّ بها، بمعنى قراءة الصورة بأدوات النص، بل تتجاوز حصر الصورة في مجال الفن التشكيلي نحو مظاهر الحياة كلها من الصور السينمائية والافتراضية التي تطرحها الحضارة المعاصرة إلى غاية الصور اليومية التي يصنعها الإنسان المعاصر في المعيش المباشر. يُعدُّ ويليم ميتشل (أمريكا) وغتفريد بوهم (ألمانيا) من أهم النُظَّار للأيقونولوجيا الجديدة. اشتغلا على المنعطف نفسه دون أن يعرف أحدهما بأشغال الآخر. سمَّاه ميتشل «المنعطف التصويري» (picturial turn)، وسمَّاه بوهم «المنعطف الأيقوني» (iconic turn).
الكلمة «مُنعطف» (وتسمَّى أيضًا «مُنعرج») هي الاستدارة التي يُنجزها مجال معرفي للتوجُّه نحو مسار آخر في التعامل مع القضايا والموضوعات. مثلًا «المنعطف اللغوي» هو دراسة القضايا الأنطولوجية بوصفها مشكلات لغوية ومنطقية، بعدما كانت في إطار التصوُّرات والتجريدات الميتافيزيقية. على المنوال نفسه يمكن القول بأن «المنعطف» في فلسفة الصورة هو مجاوزة القراءة التاريخية والوصفية لتجليَّات الصورة في الفن، والدين، والعلم نحو القراءة النقدية والتأويلية تُستقى من معجمها بالذات، المعجم الأيقوني. لا شك أن الصورة تستقي كذلك من المعجم اللغوي لإرساء معجمها الخاص، ما سمَّاه ميتشل «بلاغيات الصورة» (Mitchell, 1986, p.1)، لكن فيما تقتبس الصورة من اللغة مقوّمات مجالها الأيقوني، فهي تعدُّ أصلًا المعطيات اللغوية «فضاءات أيقونية»، مثل الصورة الذهنية التي تساوق الكلمة المنطوقة أو المكتوبة، ما سمَّاه تشارلز ساندرز بورس «الأيقونية» (iconicity) وهي قيام العلامة والشيء الذي تدل عليه على أساس التشابه: تحيل «كلمة» شجرة إلى «صورة» الشجرة.
غير أن المجال اللغوي (السيميولوجي على وجه التحديد) يجعل هو الآخر من الصورة ظاهرة لغوية عبر مفاهيم الدليل والأيقونة والرمز، الثلاثي الذي عالجه بورس وبيَّن علاقاته الضمنية داخل نظام العلامة. من ثمَّ فإن «أيقونية» الشيء ليست صورته، بل نسبة الشيء إلى ما يدل عليه وفق نظام المماثلة أو المشابهة، أي العلاقة بين شكل العلامة (الدال) والتصوُّر أو المفهوم المناسب لها (المدلول). أمام هذا السجال بين اللغة والصورة، أي بين أيقونية اللغة ولغوية الصورة، نجد أنفسنا في مأزقٍ يتَّخذ شكل المعضلة المنطقية. هل ينبغي الخيار بين «أيقونية اللغة» و«لغوية الصورة»؟ يرى نُظَّار الصورة بأن هذا السجال هو نقاش عقيم؛ لأن المجالات «تتداخل» بقدر ما تستقل بمعجم وحقل دراسي خاص، إلى غاية دمج ميتشل الصورة في النص بهذه الصيغة: «الصورةالنص imagetext» (Mitchell, 2015, p.40-41). كان الهدف عندهم النظر في إمكانية أن تُشكِّل الصورة معجمًا أيقونيًا خاصًّا بها لا ينافس المعجم اللغوي ولا يتعدَّى عليه، بل يُبرز الصورة ظاهرةً أيقونية بالمعنى الفينومينولوجي للكلمة. هذا ما يعنيه ميتشل من «الأيقونولوجيا»، أي خطاب حول الأيقونة أو «علم الأيقونة»، مع ضرورة تحديد ما يُقصَد بالأيقونة في هذا المجال.
نعرف بأن كلمة «أيقونة» كان لها مجال حصري هو المجال الديني، وهي صورة القداسة (المسيح، القدِّيس) في دعامة مادية ذات زخرفة منمَّقة بالذهب والفضَّة، يتجلَّى فيها التعالي ولها وظيفة تعبُّدية، أو كما تقول كورنيليا تساكيريدو «أيْقُونَات في الزَّمَن، شَخْصِيَّات في الأزَلْ» (Tsakiridou, 2013). تحيل الأيقونة الزمنية إلى الصورة الأزلية للشخصيات التي تتجلَّى فيها. يقترب تعريف ميتشل من هذه الصيغة عندما يُميِّز في كتابه «الصورة العلم: الأيقونولوجيا، الثقافة المرئية، وجماليات الإعلام» (Mitchell, 2015, p.16-17)، بين الصورة والأيقونة (أو التصويرة)، حيث الصورة هي الأيقونة مادِّيًا، والأيقونة هي الصورة تجريدًا؛ نرى الأيقونة أو التصويرة لأنها دعامة مادية، لكن لا نرى الصورة التي تبقى متوارية في عين تجلِّيها في الدعامة المادية. كما أن الصورة تدوم حتى بعد زوال الأيقونة أو التصويرة (تلف، حرق، تمزُّق)؛ تخلُد في السَّرد أو الذاكرة.
تمامًا مثل التصوُّر اللاهوتي القديم (Mondzain, 2005) الذي جعل الصورة في نظام «التَّعالي» (الزمن الأزلي والمقدَّس) والأيقونة في نظام «المحايثة» (الزمن التاريخي)، فإن التصوُّر المعاصر يجعل الصورة في نظام التَّواري الذي يُحرِّك، من وراء حجاب، مجموع الأيقونات أو الدعامات المرئية التي تتميَّز بها الحضارة المعاصرة من فنون تشكيلية، وألعاب الفيديو، وعوالم افتراضية (شبه واقعية): «يمكن التفكير في الصورة على أنها كينونة لامادية. إنها مظهر طَيْفي، يتجلى في دعامة مادية. لكن، ليس من الضروري أن نسلم بوحدة ميتافيزيقية لكينونات لامادية» (Mitchell, 2009, p.22-23). وإن كان ميتشل يرفض وجود كيانات مفارقة، على طريقة الأفكار الناصعة الأفلاطونية، إلا أنه يطرح ماهية الصورة بصفتها كينونة لامادية تتجلَّى/تتوارى في الدعامة المادية (الأيقونة أو التصويرة).
التناقض في الحدود بين تجلِّي الصورة وتواريها هو ما يجعلها صعبة الضبط والتحديد، وعسيرة الإدراك، ومستعصية الاكتناه؛ لأنها من طبيعة طَيْفية أو شَبَحية. تنتمي إلى نظام «هُوَ لا هُوَ»، الذي جعل منه ابن عربي جوهر الحقائق الوجودية («وجود الضد في عين ضدِّه»، الفتوحات، 2، 605). الصورة «هي لا هي»، مادية ولامادية معًا. ومن ثم لا يمكن قراءتها إبستمولوجيًا فحسب (وإن كانت هي المهمَّة التي انكبَّ عليها ميتشل وزميله بوهم)، بل تُقرأ فينومينولوجيًا وباروكيًا: فهي لا تخضع لمبدأ عدم التناقض الأرسطي. لأجل ذلك قدَّم ميتشل ضرورة «المنعطف التصويري» الذي يُوجِّه مساره نحو تناول أنطولوجي لسؤال الصورة. يتيح العالم الرقمي تعدُّد الهوية الافتراضية للشخص الواحد الذي يوجد في الوقت نفسه في عدَّة أماكن، مثل «هُولُوغْرَام» الذي هو المثال البليغ حول انهيار مبدأ عدم التناقض الأرسطي في المنطق الأيقوني الجديد. من ثمَّ فإن الصورة تخضع هنا لمنطق التناقض الظاهر: «هي لا هي». لأن جسد الشخص الذي ينحصر في الزمان والمكان باسم التَّناهي الموضوعي، يتضاعف بهوياته الافتراضية.
يُشير ميتشل إلى مجموعة من المنعطفات التصويرية في التاريخ، منها قصَّة العجل والمنعطف الصَّنمي، ثم منعطف الصورة الفوتوغرافية والسّينمائية، وأخيرًا المنعطف الرقمي، ما بعد الحداثي في جوهره، صيَّر الوقائع الحقيقية وقائع افتراضية (مثلًا، صيرورة البنوك التقليدية بنوكًا افتراضية؛ وصيرورة النقود الورقية والمعدنية نقودًا الكترونية مثل بيتْكُويْن). لم يتغيَّر جوهر الصورة بقدر ما تغيَّرت «المجَالي» (جمع «مَجْلَى») التي تجلَّت فيها: بالأمس كان عالم الخيال هو مُحرِّك الصورة عبر مَلَكة المصوِّرة في الفن والدين والعلم والفلسفة، وصار اليوم عالم الافتراض هو المحرِّك لها في الشاشة والهولوغرام. يمكن القول بأن الصورة المتخيَّلة صارت صورة مرئية مع بقائها طَيْفية أو شبحيَّة: تُرى «كأنَّها» واقعية، كأنها الواقع. لم يعد الإنسان يتخيَّل. صار يرى الخيال عيانًا، وكأن الخيال انتقل من الأذهان إلى الأعيان مع بقائه بحُكم الأذهان: أتاحت التقنيات الرقمية (مثل «فوتوشوب») تركيب صور غير واقعية لكنها مرئية. إنها أنطولوجيا وميتافيزيقا من نوعٍ جديد، أنطولوجيا رقمية وميتافيزيقا افتراضية تنسف التصوُّر العريق للزمان والمكان والوجود والواقع والسببية.
من جهته، وضع بوهم قواعد «المنعطف الأيقوني» بالرجوع إلى الأصل الغابر والغائر للنوع البشري وهو القُدرة على التصوير قبل القُدرة على النطق كما تكشف عنه رسومات الإنسان البدائي في الكهوف والمغارات. ومن ثمَّ فإن الصورة تسبق اللغة، والإشارة هي أصل العبارة. الإشارة هي «أدائية»، تقول ما تفعله. قانون المرور هو إشاري لأنه يُنجز ما يُشير إليه في سياق الحركة والتنقُّل. تختلف الصورة عن اللغة بأنها ليست حملية، ولا تخضع إلى منطق القضية. يتعدَّى التعبير في الغالب نحو ما يُعبِّر عنه. فهو يدل على شيءٍ بوساطةٍ ما: الصوت أو الفونيم، تقطيع الكلام للنطق بالشيء. لا تتعدَّى الصورة نحو شيءٍ آخر، بل هي تقع «مباشرةً» (وبدون وساطة) على موضوعها: «نرى شيئًا» ولا يوجد شيء في نظام الصورة ما يجعله وساطة بينها وبين موضوعها، على الخلاف من اللغة التي تلجأ إلى الحرف أو الصوت للتعبير عن موضوعها، وتتحدَّث عنه في صيغة الغائب، وتُعبّر عنه في صيغة الحَكْي أو السَّرد، إلخ.
الصورة هي ما يلوح ويُشير. لا يوجد شيء في الصورة ما هو زائد على الصورة. هناك دائمًا شيء زائد في اللغة ما يجعله يتخطَّى اللغة نحو شيء آخر غير اللغة: يمكنه أن يكون عبارة تؤدِّي إلى فعل، مثل صيغة الأمر في إنجاز شيءٍ ما: «افعل!». إذا كانت اللغة تتَّسم بالتعدية، فإن الصورة تتَّصف بالتميُّز، ما سمَّاه بوهم بالتميُّز الأيقوني: «الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يهتم بالصُّور، فهو بذلك “إنسان تصويري”. ليس تحقيق الصورة خلق شيء، بل هو إنجاز فعل التميُّز» (Boehm, 2010, p.31). التميُّز الأيقوني هو «تمايز» في نظام الصورة بين فعل الرؤية والأشياء المرئية. ثم إنَّا نرى بالصورة ولا نرى الصورة. إنها دافع وليست موضوعًا. عندما تكون موضوعًا وتُرى، فهي أيقونة. يُبرز كل هذا لطافتها ومن ثمَّة استعصاء إدراكها في ذاتها. يكون إدراكها في المجلى الذي تتوارى فيه وهو الأيقونة أو التصويرة. مجلى الصورة هو «الإشارية» بمجموع النعوت التي تقع على الأشياء وبأدوات الإشارة: هذا، هنا، هناك… بالإضافة إلى «الإيمائية» التي غالبًا ما نُعطيها اسم لغة الجسد (body language) التي تُبرز أحوال الجسد ومواقعه في الوضع الذي يوجد فيه، وبالمقارنة مع وقائع تحدث في حيّزه المباشر. لكن، هل هي «لغة» أم «صورة»؟
هناك تعاضد الكل والأجزاء، أي الجسد والأعضاء. كل عضو «يتمايز» عن الأعضاء الأخرى بوظائف محدَّدة، لكن موجَّهة كلها نحو ما تعنيه. يسهر الجسد على توحيد دلالات الأعضاء في المعنى المراد استخلاصه، أي الصورة الممكن الوقوف على كنهها: «يقتضي التفكير في الصورة، في نظري، التفكير في الوحدة المتوتِّرة دائمًا بين العين واليد والفم» (Boehm, 2010, p.39). عندما نقول «لغة الجسد» فإنَّا نقصد الإشارة التي جعلت ممكنًا العبارة، من حيث أن الإنسان البدائي (الذي ما يزال يعتمل فينا بدون درايتنا) كان يُشير إلى ما يثير انتباهه أو رغبته أو قلقه. كانت الأصوات التي يبثُّها عاجزة عن تحديد طبيعة ما يُشار إليه، لكن بتطوُّر الوظائف الإدراكية والدماغية، بدأت اللغة تتشكَّل كظاهرة طبيعية في «لَوْك الكلام» بتقطيع الأصوات وتعيين الأشياء، قبل أن تصير ظاهرة ثقافية في معاني الكلام وخزائن اللسان. إذا كانت الإشارة تسبق العبارة، معنى ذلك أن بوهم يجعل من الصورة بُعدًا «شهوديًا» يقول بأنَّا نشهد الأشياء، نحن بحضرتها، نُدركها، من وراء حجاب الصورة المتوارية التي هي الدَّافع.
والبُعد الشهودي الذي يرتبط عادةً بالرؤية، هو في الحقيقة بُعد كوني ينطلي على الأعضاء الحسيَّة كلها، لأنَّا يمكن أن نتحدَّث عن «الشهود السمعي» بالإصغاء إلى قصَّة مُعبِّرة أو بالإنصات إلى إيقاع موسيقي، ونتحدَّث عن «الشهود الذوقي» باختبار شيءٍ حلو أو مر عضويًا، أو ممتع أو مؤلم نفسيًا، ونتحدَّث عن «الشهود العَرْفي» بشمّ العطور أو استنشاق الزهور والتمييز بين روائحها، ونتحدَّث عن «الشهود اللساني» بالإفصاح عن الكلام نُطقًا فتتميَّز الألفاظ لتتمايز المعاني. الشهود هو الحضور المليء للصورة في تجليَّاتها الحسيَّة، المختلفة والمتنوِّعة، لكنه حضور لا يعني دائمًا المرئية، ما دامت الصورة تتوارى في عين ما يجعلها حاضرة وهي الدعائم الحسية أو الأيقونة. السمع، والذوق، والشم، والنطق هي كلها مظاهر أيقونية؛ لأن حصولها هو شهود مفاعيلها وآثارها، وإن اختفت أعيانها. يمكن للمتمرّس أن يُميّز أصوات الحيوانات في الغابة دون أن يراها عيانًا. هذا الشهود هو ما يُعطي الأيقونية للملكات البشرية ويجعلها أدوات مساعدة في إدراك لطافة الصورة. وإن لم يطرح بوهم بصريح العبارة فكرة «الشهود» أو «الشاهد» (witness) بصفتها وحدة الصورة في الكثرة المحسوسة وفي المظاهر الفنية، والعلمية، والدينية، والفلسفية، إلا أن فكرته حول «الإشارية» هي مدخل أساس لثَقْف فكرة الشهود.
كان الفلاسفة القدماء على وعي بهذه المسألة عندما نعتوا الأعضاء والجوارح بأنها «شهود» والعقل هو «القاضي أو الحاكم»، يحكم على الموضوعات المعرفية بناءً على الشهود. زيادةً على ذلك، تُمثِّل «البَاريدُولْيَا» (Pareidolia) البرهان الأساس على الجوهر الأيقوني للإنسان بناءً على وظائف دماغية وإدراكية معقَّدة. تنعت هذه الظاهرة الطريقة التي يرى بها الإنسان الأشياء وفق شرطه الإنساني أو الأنثروبولوجي. الأشكال الحيوانية أو الإنسانية المشهودة في أشياء الطبيعة (جبل، غيوم، أثاث…) هي مفاعيل عَصَبية وإدراكية تجعل الإنسان «يرى» وفق طبيعته الذاتية، وكذلك تبعًا لما «انْعَقَد» في ذاته من اعتقادات وخيالات وسرديات، كأن يرى المسيحي صورة اليسوع أو العذراء في ظواهر الطبيعة، وأن يرى المسلم اسم الجلالة «الله» في أشياء العالم. تقول هذه الباريدُوليا، وهي انعكاس الجهاز التمثُّلي والإدراكي للإنسان في ظواهر العالم، جوهر الأيقونولوجيا أي أن الإنسان، قبل أن يكون «حيوانًا ناطقًا» بتعبير أرسطو، هو «كائن أيقوني» تطبَّع على الصورة التي وُجد بها: صورة الخلق العضوي، ثم الوجود في العالم، والانوجاد بحركة العالم في التعشُّق والميول (فعل، انفعال، رغبة، إلخ). يبقى فقط أن طغيان اللغة وعالم الأفكار حجب بداهة الصورة المتوارية وراء حُجب الشهود والأشباه، وهو ما تأسَّف له بوهم وعمل على تصحيحه.
المراجع
Agamben, Giorgio (1998), Image et mémoire, éditions Haëbeke, coll. « Art & esthétique ».
Boehm, Gottfried, “Zu einer Hermeneutik des Bildes”, in Gadamer, Hans-Georg und Boehm Gottfried, hrsg. (1978), Seminar: Die Hermeneutik und die Wissenschaften, Suhrkamp: Frankfurt-am-Main.
Boehm, Gottfried (2010), « Ce qui se montre. De la différence iconique », in Alloa, Emmanuel (éd.), Pensée l’image, Les Presses du Réel.
Cassirer, Ernst (1997), Trois essais sur le symbolique, trad. Jean Carro et Joël Gaubert, éd. Cerf.
Hub, Berthold and Kodera Sergius, eds. (2021), Iconology, Neoplatonism, and the Arts in the Renaissance, Routledge: New York & London.
Panofsky, Erwin (1955), Meaning in the Visual Arts, Anchor Books: New York.
Panofsky, Erwin (1939), Studies in Iconology: Humanistic Themes in the Art of the Renaissance, Oxford University Press: New York-Oxford, new edition: Icon Editions/Westview: Oxford, 1972.
Mitchell, W.J. Thomas (1986), Iconology: Image, Text, Ideology, The University of Chicago Press: Chicago.
Mitchell, W.J. Thomas (2015), Image Science: Iconology, Visual Culture, and Media Aesthetics, The University of Chicago Press: Chicago.
Mondzain, Marie-José (2005), Image, Icon, Economy: The Byzantine Origins of the Contemporary Imaginary, trans. Rico Franses, Stanford University Press: Stanford.
Rampley, Matthew (1997), “From Symbol to Allegory: Aby Warburg’s Theory of Art”, The Art Bulletin, vol.79/1, pp.41-55.
Tsakiridou, Cornelia A. (2013), Icons in Time, Persons in Eternity: Orthodox Theology and the Aesthetics of the Christian Image, Agathe: Burlington (US).