وفقًا لبعض التقديرات، اعتبارًا من عام 2019، هناك 3.84 مليار مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي في جميع أنحاء العالم؛ أيّ ما يقرب من ثلث سكان العالم. من بين هؤلاء، يمتلك 1.55 مليار شخص حسابات و/ أو يستخدمون الفيسبوك Facebook للتواصل الاجتماعي. كما يستخدم حوالي 800 مليون شخص برنامج فيسبوك ماسينجر Facebook Messenger للتواصل مع بعضهم بعضًا. وبالمثل، يستخدم 320 مليون شخص تويتر شهريًا للتواصل و/ أو للحصول على معلوماتهم اليومية، ويستخدم 900 مليون مستخدم حول العالم الواتساب WhatsApp. هذا الاستخدام الواسع لمنصات التواصل الاجتماعي يجعلها فاعلًا مركزيًا في الثقافة المعاصرة لا يمكن بأي حال تجاهل تأثيره على المستويين المعرفي والوجودي.
غير أنه من المهم أيضًا التأكيد على أن هناك جانب خاص وفردي في التعامل مع الوسائط والعالم الافتراضي لهذا لا يمكن تعميم أيّ افتراضات خاصة بهذا الموضوع، والحال أن أيّ افتراض يتعلق بأثر الوسائط والعالم الافتراضي على وعينا وحياتنا قد ينطبق في بعض الحالات وقد لا ينطبق في حالات أخرى، وتظلّ النسب في هذا الأمر تقديرية بدرجة كبيرة. إذا ظلت وسائل التواصل في حدود كونها أداة مستخدمة من أجل (التواصل- اكتساب المعلومات- الترويج الدعائي….إلخ)، فلا شك أنه يمكن إدراجها ضمن تاريخ طويل من الأدوات التي طوّرها الإنسان للسيطرة على عالمه الخارجي من أجل تقنينه وتطوير طرق التعامل معه.
من هنا فإن وسائل التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي عمومًا إيجابيات عديدة لا يمكن إنكارها أو التقليل من شأنها. لهذا لا يندرج هذا المقال ضمن تاريخ نقد الميديا والإنترنت والعالم الافتراضي مثل الكثير من الأدبيات التي قدمت في هذا الصدد لمفكرين وفلاسفة مثل هربرت شيللر، والآن باديو، وجي ديبور، وحتى كارل بوبر، وذلك لأنه لا أحد يستطيع أن يقف أمام هذا التطور الحاصل ولا يمكن رفضه أو السيطرة عليه، لهذا تسعى هذه المقالة إلى توصيف المشهد الراهن وأثره على طرق تمثيل العالم من حولنا وشروط العيش فيه.
وليس هناك شك في أن البيئات عبر الإنترنت قد انبثقت أشكالٌ جديدة عنها من العلاقات والشبكات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولن يكون من المبالغة القول إن عالم الإنترنت له دستور فريد ورأسمال اجتماعي وثقافي خاص به. مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي ليسوا مجرد مستهلكين/ متلقين للخطابات ولكنهم أيضًا منتجون نشيطون لها. لهذا هناك الآن، إدراك متزايد بأن الحقائق والخطابات عبر الإنترنت تحدد سلوكيات وهويات الأفراد.
وفقًا للإطار السابق تسعى هذه المقالة إلى التأكيد على أن وسائل التواصل الاجتماعي، والواقع الافتراضي عمومًا، قد أتاحا الفرصة أمام إعادة تشكيل الذات بشكل يجعلها مغتربة عن حقيقتها وبطريقة تحدث انفصالًا بينها وبين العالم الخارجي والآخرين، وهذا عكس ما يوحي به مسماها «تواصل اجتماعي». وقد عزَّز من هذا الوضع كون وسائل التواصل وسيطًا معرفيًا مركزيًا في ثقافتنا الراهنة. تناقش المقالة آثار هذه الوساطة على عالمنا وعلاقتها بمشكلة الاغتراب عن الذات والهوية الشخصية للفرد وكيفية انعكاس هذا على الوجود الإنساني بشكل عام.
تتبنى هذه المقالة تعريفًا للاغتراب مضمونه أنه حالة انفصال الفرد عن هويته أو جوهره وبالتالي انفصاله عن الآخرين وعن العالم بأسره. الاغتراب هو انفصال يحدث بين الذات وحقيقتها الفعلية نتيجة بعض المعوقات التي تشكل حاجزًا وغطاءً كثيفًا يحول دون تواصل الذات مع نفسها، وهنا يمكن اعتبار استلاب الوعي الذي طرح في أدبيات مدرسة فرانكفورت عاملًا من العوامل التي تؤدي لاغتراب الذات عن نفسها ومن ثم عن العالم والآخرين.
تقوم هذه المقالة على اقتراحين مفادهما:
- طبيعة العالم قد تغيرت نتيجة دخول متغيرات عديدة أثَّرت في طرق تعاملنا وتواصلنا مع العالم ومع الآخرين. أهم تلك المتغيرات دخول العالم الافتراضي كوسيط في تعاملنا مع الأشياء من حولنا، فقد حلت الشاشات محل اللغة. لقد أنشأ هذا العالم في البداية عالمًا موازيًا لعالم الواقع، ما لبث هذا العالم أن تضخم حتى احتوى العالم الواقعي بأكمله، لدرجة أصبح معها هذا الأخير جزءًا ضئيلًا من الأول. وهو ما يعني في النهاية أن ثمّة تغيرًا طرأ على طبيعة العالم من حولنا، ما يستوجب معه جهدًا نظريًا موازيًا للكشف عنه وتحليله.
- لمواقع التواصل الاجتماعي علاقة وثيقة بمشكلة التمثيل، تلك المشكلة التي أفاض الفلاسفة في مناقشتها خاصةً في فترة ما بعد البنيوية. ويشير التمثيل من الناحية الإبستمولوجية إلى الصور الذهنية والإدراكات التي يكونها الإنسان عن العالم الخارجي والتي تغدو بعد ذلك أشبه بالموجهات التي توجه طريقة تفكيره وتحكم استجاباته في العالم. وإذا كان الإنسان في النهاية محصلة تمثلاته عن العالم، وإذا كانت تلك التمثيلات في معظمها تتم الآن عبر الواقع الافتراضي والميديا، أيّ من خلال توسط الشاشة، فإن النتيجة هي أن معظم تمثلات الإنسان عن الواقع وبالتالي استجاباته في العالم هي في حقيقة الأمر تجليات أو ردود أفعال على الواقع الافتراضي.
إعادة طرح سؤال العالم
لا يمكن بحال مقارنة اكتشاف الواقع الافتراضي الذي انبثق عنه شكل التواصل الجديد بأيّ اكتشاف تقني آخر اكتشفه الإنسان للسيطرة على عالمه وتيسير سبل التعامل معه (الطائرة والسيارة وحتى الطباعة….). حيث وقفت هذه الاكتشافات عند حدود استخدامها الأداتي، ولهذا لم يكن واردًا الحديث مثلًا عن الاغتراب في ظل اكتشاف الطائرات أو الطباعة. أما الواقع الافتراضي فهو اكتشاف من نوع آخر لأنه تشابك مع عالمنا وتداخل معه بحيث أنتجا واقعًا جديدًا على كافة المستويات (الاجتماعية- السياسية- الاقتصادية). وكل تقدم حاصل في تكنولوجيا الواقع الافتراضي يؤثر على طبيعة العالم من حولنا وعلى سبل العيش فيه بطريقة تلقي بظلالها الإدراكية والاجتماعية والنفسية على الفرد والمجتمع.
لقد فرضت تكنولوجيا العالم الافتراضي إعادة التساؤل عن طبيعة العالم من حولنا. وقد أدت نشأة وسائل التواصل الجماهيرية، إلى تحولات عميقة في طبيعة حياتنا على المستويات كافة. إن الافتراضي بمعناه الراهن لا يعرض لنا العالم أو يعكسه أو يمثّله بل أصبح بصورة متزايدة يحدد ويعيد تعريف ماهية العالم الذي نعيش فيه. الافتراضي أعاد تشكيل العالم وصياغته، وبالتالي لم يعد العالم يُعاش بذات الطريقة التي كان يعاش بها فيما قبل القرن الحادي والعشرين. فهو لا يعترف بحدود المكان والزمان، إنه يعمل خارج نطاق الجغرافيا والحدود المكانية المتعارف عليها، كما يعمل من خلال إرشيفه الخاص على استعادة الماضي وإعادة توظيفه في سياقات مختلفة خارج سياقه الأصلي.
ولم يحدث هذا التغيير في طبيعة العالم بطريقة مفاجئة، بل حدث تدريجيًا وعبر مرحلتين رئيستين. المرحلة الأولى، وهي التي يقف فيها الافتراضي بما فيه وسائل التواصل عند حدود الأداة (الويب 1)؛ أيّ كانت هناك علاقة أداتية تربط المستخدم به مثل استخدام الهاتف أو البريد أو أي أداة أخرى تمكن الإنسان من عالمه. أما المرحلة الثانية فقد شهدت تطورات تقنية متقدمة مكنت الواقع الافتراضي من تجاوز حدوده الأداتية ليغدو العالم الواقعي معتمدًا عليه بشكل رئيس، فأصبح الأول حاملًا للثاني (الويب 2). أما الويب 3 فسيحدث بالتأكيد نقلة كيفية في طبيعة عالمنا، وأعتقد أننا نعيش إرهاصاتها الآن، (الميتافيرس- تكنولوجيا الواقع المعزِّز- وفي المجال الاقتصادي البيتوكين والبلوك تشين….).
ما خصائص الافتراضي في صورته المتطورة؟
- واقع متشظ، فهو يعرض سيل من الأحداث والصور والمعلومات التي لا تربطها وحدة بنيوية، وبالتالي هو في جوهره غير مرتبط بواقعة أو حدث محدد، أيّ أنه يمتلك قدرة ذاتية على الفعل دون الارتباط بموضوع أو سياق معين. وعليه فإن محتوى هذا العالم لا يمكن أن يكون ثابتًا (سائلًا إذا استخدمنا وصف زيغمونت باومان)، وهو بالتالي لا يسمح بأن تتخذ الذات منه موقفًا نقديًا بل يعمل على الاستحواذ على المتلقي وتشتيت انتباهه في أكثر من موضوع وهذا ربما يؤدي بصورة أو بأخرى إلى عملية استحواذ على وعي المتلقي وربما تقليص فاعليته النقدية أو استلاب وعيه (إذا استخدمنا مصطلحات مدرسة فرانكفورت).
- تحوّل الواقع الافتراضي، وتحديدًا المتعلق منه بمنصات التواصل الاجتماعي، من كونه محاولة لمحاكاة واقع، إلى نموذج يحاول الواقع محاكاته. فقد أصبح الواقع صورة شاحبة منه. الافتراضي هو الأساس لا الواقع. الافتراضي هو المعيار الذي يقاس بواسطته صدق الواقع أو كذبه. أصبح الافتراضي سابقًا للواقع وممهدًا له. وقد باتت العلاقة التقليدية بين الخيال والواقع اليوم مهددة بالتدمير، بحيث باتت التفرقة بين الواقع والخيال في عالم الصور المحاكية والمحاكاة الزائفة مشوشة وملتبسة إلى حدٍّ بعيد.
- لا يمكن التعامل مع منصات الواقع الافتراضي والتواصل الاجتماعي على أنها محايدة أو خالية من الإيديولوجيات الموجهة لها أو ما تطرحه من ازدواجية معيارية في التعامل مع المواقف المتشابهة، ما يعني أنها تخلق رأيًا عامًا من خلال التراكم وتساهم بشكل فاعل في تشكيل الصور الذهنية عن العالم والآخرين داخل الوعي. بالإضافة لذلك لا يمكننا أن نتجاهل الطابع الرأسمالي لهذه المنصات والمملوكة لشركات عابرة للقوميات، وهذا بعد في غاية الأهمية، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أنّ منصات التواصل أصبحت ساحة دعائية وترويجية مفتوحة.
- ما الواقعي؟ وما الخيالي؟ ما الحقيقي؟ وما الزائف؟ وضعنا الافتراضي في مأزق معرفي يتعلق بالإجابة عن هذه التساؤلات. عندما يدّعي شخص ما أنه مريض، يمكننا تفنيد ادعاءه من خلال ملاحظة توافر أعراض المرض لديه، لكن عندما يمتلك هذا الشخص القدرة على اختلاق أعراض حقيقية أيضًا، هنا يتوقف الطب عن العمل ولن يكون بمقدوره الحكم على ادّعاءه وتصبح حقيقة المرض غير معروفة. المشكلة أن الافتراضي أزال الحاجز بين الواقعي والمصطنع فجعل من المستحيل الاستمرار في لعبة إقامة التمايزات والحدود وإصدار الأحكام سواءً في الفن أو الأخلاق أو السياسة[2].
الافتراضي ونظرية العلامات
إذا أردنا توظيف نظرية العلامات لدي سوسير في مقاربة العالم الافتراضي ومنصات التواصل الرقمي، يمكننا القول إنهما يقدّمان عالمًا من الدوال المتحررة من المدلول. يشير الدال عند دي سوسير إلى الشكل اللغوي أو الرمزي، أما المدلول فيشير إلى المحتوى الواقعي لها، أيّ ما تجسده الكلمة أو الصورة أو الشكل في الواقع أو ما يثيره ذلك من معنى لدى المتلقي. وعند دي سوسير ثمّة علاقة وثيقة بين الدال والمدلول، بحيث إذا حضر الدال حضر المدلول. إذا طبقنا مفهوميّ الدال والمدلول على الواقع الافتراضي نستطيع القول إن مكوناته الشكلية تكافيء الدال في حين أن المحتوى الموضوعي لها، أيّ الحدث أو الشيء الذي تجسده، هو بمثابة المدلول. غير أن مكونات الواقع الافتراضي كما يظهر لنا لا يقدّم الواقع كما هو، ولا حتى صورة عنه، بل يصطنع دوال بلا مرجعية واقعية لها، وبالتالي تصبح مرجعية نفسها. هذا بينما تفترض الدلالة (المعنى) وجود علاقة بين دال ومدلول، بين الرمز وما يرمز إليه. وعندما تكتفي العلامة بذاتها، وتكون مرجعية نفسها، تصبح دلالتها خارج نطاق الواقع الذي نعرفه، وبذلك يختفى الواقع، ويظهر الافتراضي الذي لا يحيل إلى شيء خارجه، فهو لا يعيد تمثيل العالم الخارجي بل يقطع صلته به. وهذا هو مأزق التمثيل في ظلّ العالم الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي، أنه أصبح مرجعية ذاته، من غير إحالة إلى ما يمثّله أو يعبّر عنه.
إنّ غياب ثنائية الرمز- الواقع يعني غياب الصلة بين الرمز والواقع وبالتالي انقطاع الصلة بين الرمز وما يشير إليه، حيث يقوم المصطنع بتدمير المسافة بين هذه الثنائية، ما يعني أن الدال أو الرمز الذي يمثله الافتراضي غدا كلي القدرة، مستقل بذاته، ومنكفىء عليها، ولهذا لا يخفي أيّ حقيقة، بل يقدم نفسه على أنه هو الحقيقة.
من ناحيةٍ أخرى وإذا نظرنا إلى جانب مهم لمنصات التواصل الرقمي والذي يتمثّل في عرض الأخبار والمعلومات بغية عرضها للجمهور والتفاعل معها، سنجد أنها ترسخ لفكرة الانفصال لا الاتصال. يفترض الاتصال وجود علاقة تبادلية بين مرسل ومستقبل، بحيث يتبادل الطرفان الإرسال والاستقبال كما في الحوار بين شخصين، لكن بعض منصات التواصل الرقمي تكون مرسلة فقط دون أن تكون مستقبلة لرسائل مماثلة لتلك التي ترسلها. وليست التعليقات أو مقدار التفاعل بالسلب والإيجاب مع الأخبار هو شكل التواصل المتوازن هنا لأنه يخلق انفصالًا بين المرسل والمرسل إليه، خاصة أنّ منصات التواصل الرقمي تكرّس أكثر لمفهوم التفاعل الإيجابي مع المحتوى لا التفاعل السلبي.
أين المرسِل والمرسَل إليه؟
لتوضيح ذلك يمكننا العودة إلى إلى نظرية الاتصال عند رومان ياكبسون المكونة من ثلاثة عناصر: المرسِل والرسالة والمرسَل إليه. في الواقع الافتراضي تحررت الرسالة من المرسِل وأصبحت تمارس دورها كجزء من واقعها الجديد، أي أن الرسالة أصبحت ذاتية الفعل ومكتفية بذاتها، هي ذاتها الرسالة والمرسِل في آن واحد. وقد يقوم المرسَل إليه بإعادة توجيهها مرّة أخرى، وفي كل مرّة تُحمل بمعانٍ جديدة، ويعاد توظيفها بصورةٍ دائرية لا تنتهي. ما تنتجه الرسالة في النهاية من معاني وما تحمله من دلالات وما تثيره من ردود أفعال يدور كله في فلك الافتراضي. إن الحدث ما أن يتحول إلى مادة مقدمة داخل الافتراضي، يفقد واقعيته الخاصة ويتخذ مكانه في فضائه الجديد، ولن تستطيع أيّ قوى أن تعيده إلى مداره الأصلي مرّة أخرى.
الاغتراب المعرفي- الوجودي
- المفاهيم: نحن نتاج ما نتمثّله عن العالم، نتصرّف ونتواجد فيه من خلال مصفوفة من المفاهيم تشكل وجهات نظرنا تجاهه وتحدد الطرق التي بها نكون. لا أحد يستطيع أن ينكر أن جانبًا كبيرًا من تلقي المعرفة والمعلومات في وقتنا الراهن يحدث من خلال منصات التواصل الرقمي ومن الواقع الافتراضي بشكل عام. ذلك من شأنه أن يطرح إشكالًا خاصًا بكم المعلومات والمعارف الصحيحة والخاطئة التي يتعرض لها الإنسان يوميًا وما يؤثر به ذلك، عبر التراكم، على طريقة تمثله للعالم. والواقع أن الافتراضي يروج الرسائل والرموز ويرسي مصفوفة جديدة من القيم أو يعمل على خلخلة النسق القيمي السائد في مجتمعٍ ما بطرق متنوعة تهدف إلى مخاطبة أكبر قاعدة ممكنة من الجماهير. وبمرور الوقت يتبنى المشاهد أو المتلقي الرموز والرسائل والقيم الجديدة ويدرجها في جهازه القيمي- السلوكي، ويحدد من خلالها طريقة توجهه في العالم والحياة، بحيث تشكل مجموع هذه الرسائل والرموز والقيم طريقة المشاهد في علاقته مع نفسه والآخرين والعالم. فما يحدث إذن يتمثّل في أن الافتراضي يكيف الناس ويدفعهم داخل النماذج القيمية والسلوكية التي يخلقها ويطرحها للتدوال. وعليه فإن ردود أفعال الفرد في الواقع لا تكون نابعة من داخله، ولا تكون نتيجة تفكير نقدي ودراسة تحليلية للمواقف، بل يتدخل فيها الافتراضي بصورة مباشرة. فيغدو العالم في جانب كبير منه تجليًا لهذا الافتراضي.
- النسخ المثالية عن الذات: تسمح منصات وسائل التواصل الاجتماعي للمستخدمين بإنشاء نسخ مثالية من أنفسهم. ثم يرى هؤلاء هذه الذات المثالية باعتبارها إمكانات غير محققة لا يستطيعون الوصول إليها، وربما يكون الأمر الأكثر ضررًا بالصحة العقلية هو الانتشار المتزايد لبرامج تحرير الصور واستخدام المرشحات التي تبدل مظهر الفرد. هذا الانتشار من شأنه أن يخلق تجربة اجتماعية ومظهرًا جسديًا يعملان بمثابة تمثيل لإمكانات غير محققة، وغالبًا ما تكون غير قابلة للتحقيق. ومن شأن ذلك أن يخلق بيئة أخرى يكون فيها الفرد مدركًا للإمكانات الكامنة التي لا يستطيع إظهارها في حياته، مما يحول ذاته الحقيقية إلى مصدر دائم للقلق. هناك بعض الدراسات الحديثة التي رصدت تأثير مرشحات السناب شات Snapchat على صورة أجساد الشابات وتصوّرات الجمال لديهم، حيث تعمل هذه المرشحات على تغيير المظهر بمهارة؛ من تنعيم البشرة، إلى التحريف التام للشكل من خلال ملء الشفاه وتغيير لون العين. أدى هذا إلى نشأة ظاهرة معروفة، حيث يسعى عدد متزايد من الشباب (وخاصة الإناث ممن هم في مرحلة الشباب) إلى إجراء جراحة تجميلية لمواءمة مظهرهم الجسدي مع المظهر الذي يحققونه من خلال فلاتر السناب شات. إذا لم يكن المرء ممتلكًا القدرة على إجراء هذا التحول ستكون النتيجة بالتأكيد عدم رضا تام عن الذات وربما حالة من العزلة وعدم الرغبة في الظهور الاجتماعي.
- الطابع الاختزالي: بالإضافة لذلك نحن في الغالب نقوم بنشر الصور «الأفضل» فقط على منصات التواصل، مما يؤدي إلى إنشاء شريط مختزل يسلط الضوء على التجربة الإيجابية فقط، ويتم استبعاد الأخرى التي ربما تكون أكثر واقعية. تختزل صور منصات التواصل الرقمية الحياة في مجرد لقطات يتم تعميمها على مجمل التجربة الشخصية للمشارك، وهذه مسألة بالغة الخطورة لأنها لا تعكس حقيقة تجربته في عمومها بل تبني حكمًا خاطئًا بناءً على مجرد لقطات مجتزئة من مجرى الحياة.
- لا نهائية المعايير: تحتوي منصات الوسائط الاجتماعية على ثروة من البيانات حول أفراد آخرين يمكننا مقارنة أنفسنا بهم. يتزايد عدد المستخدمين بشكل كبير، وهذا يوفر قدرًا كبيرًا للغاية من البيانات التجريبية التي يمكن أن توضح توقعاتنا لما يجب أن تكون عليه حياتنا وإنجازاتنا ومظهرنا الجسدي. هذا من شأنه أن يطرح بعدًا معياريًا تقييميًا للذات. مع كل معيار يمكن تقييمنا على أساسه، سيكون هناك مستخدم آخر لوسائل التواصل الاجتماعي يرسخ معيارًا جديدًا أو يعدل على معيار قائم بالفعل، وهذا نتيجة للعدد الهائل من المستخدمين على هذه المنصات. بالتأكيد هذا الأمر مؤثر بشكل كبير على تقدير الذات لأننا لن نستطيع أن نفي جميع المعايير حقها. من جهة أخرى تقدم وسائل التواصل الاجتماعي عددًا كبيرًا من الإمكانات، سواءً من حيث ما هو ممكن للبشر بشكلٍ عام وما هو ممكن لفرد معين تحقيقه. من خلال مقارنة أنفسنا بهذه الإمكانات غير القابلة للتحقيق، من المحتمل أن نشعر بمشاعر شديدة من الاغتراب.
- الموافقة الاجتماعية: من السمات الأخرى لوسائل التواصل الاجتماعي التي على علاقة بتفاقم حالات الاغتراب والعزلة في بعديهما المعرفي- الوجودي، أنها رسخت شكلًا جديدًا من أشكال الحصول على الموافقة الاجتماعية من خلال حجم التفاعلات مع ما ينشره المرء عليها. هذا الارتباط الشرطي والوجودي الذي يحدث بين حجم التفاعلات والإحساس بالقبول الاجتماعي له مخاطره الكبيرة على الذات. من خلال ميزات مثل زر «أعجبني»، وعرض عدد المتابعين أو الأصدقاء لكل مستخدم، يمكن للمرء أن يحدد مقدار الموافقة الاجتماعية التي يحظى بها بطرق كانت مستحيلة قبل ظهور الويب 2. غير أن هذا القبول قد يكون وهميًا ويحدث لأسباب أخرى لا تعبر عن قبول اجتماعي حقيقي. قد يصطدم المرء بمقدار التفاعل معه بعد تركه لوظيفته أو ظهور بعض الشائعات حوله أو أيّ متغير آخر.
- تواصل فقير: ربما تكون مفارقة وسائل التواصل الاجتماعي متمثلة في إغراء البحث عن التواصل والهروب من العزلة يقود إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لكن نوع الاتصال الفقير الذي يتم توفيره من خلالها غير قادر على تلبية الرغبة التي دفعت المستخدم إلى تسجيل الدخول في المقام الأول. فعلى تلك المنصات غالبًا ما تُفقد خاصية التفاعل الديناميكي المميزة للمحادثة الحية بسبب الشكل المكتوب؛ لغة الجسد ونغمة الصوت وتعبيرات الوجه كلها تكون غائبة في منشورات وسائل التواصل الاجتماعي المكتوبة. حتى عندما يتواصل الأفراد من خلال مقاطع الفيديو المنشورة على المتابعين على YouTube وTikTok وInstagram (وبالتالي الحفاظ على لغة الجسد ونبرة الصوت وتعبيرات الوجه) فهذه لقاءات أحادية الاتجاه. إنه شكل فقير من التواصل لا يقارن باللقاء الديناميكي الذي يحدث في المحادثة وجهًا لوجه. يمكن للمرء أن يتنبأ بأن هذا من شأنه أن يخلق مشاعر الاغتراب والعزلة عن الشبكة الاجتماعية للفرد، حتى لو كان عدد هذه الشبكة أكبر بكثير مما كان يمكن الوصول إليه من قبل المجموعات البشرية قبل الإنترنت.
هل تحولت ذوات البشر إلى ذوات افتراضية؟ يبدو أن هذا التحول قد حدث بالفعل حتى لو بشكل جزئي، ومع الدخول في عصر جديد من الافتراضي، يشكله الويب 3 والميتافيرس، يصبح التساؤل أكثر مشروعية. ما تأثير ذلك على حياتنا؟ هل سيحولها إلى الأفضل أم الأسوأ؟ لا تهدف هذه المقالة إلى تبني أحكام قيمية من هذا النوع بقدر ما تهدف إلى طرح التساؤل الفلسفي حول طبيعة الحال الذي نعيشه بصيغته الجديدة.
[1] ألقي ملخص هذا الورقة في مؤتمر الفلسفة ومواقع التواصل الاجتماعي الذي عقده قسم الفلسفة بكلية الآداب- جامعة الكويت في الفترة من 13 إلى 14 مايو 2022، وهي تنشر للمرة الأولى بعد الحصول على موافقة رئيس المؤتمر د. محمد الوهيب.
[2] أجادت السينما تمثيل هذه الحالة من الخلط بين الواقعي والمصطنع وتأثير ذلك على الطريقة التي نحيا بها في عالمنا. هناك مثالين يمكن الاسترشاد بهما في هذا الصدد فيلم Simone (أندرو نيكول 2002) وفيلم Her (سبايك جونز 2013).