
يَجمع المُفكّر المغربيّ موليم العروسي بين الكتابة الفكرية والتخييل الروائي، وإنْ كان مفهومه للكتابة واضحًا ومُختلفًا بالنّظر إلى آراء مجايليه من جيل السبعينيات داخل الفكر المغربيّ المعاصر. فهو لا يُمّيّز بين الكتابة الشعريّة والروائية والتاريخيّة والفلسفيّة، لذلك تراه لا يُقيم أيّ حدودٍ أو سياجاتٍ مع مفهوم الكتابة في علاقته بالذات الكاتبة. إذْ ثمّة في كتابات موليم العروسي اشتغالٌ مُكثّف على اللغة لا باعتبارها تزويقًا على هامش الفكر، وإنّما خفقات قلبه التي تتسرّب إلى عمق النصّ الفكري، فتُحرّره تدريجيًا من مكبوته العلمي الصارم لتُلقي به في أحضان الإبداع. ما يجعل رواياته «مدراج الليلة الموعودة» و«ملائكة السراب» من أهم الروايات المغربيّة العميقة التي تطرح أسئلة فلسفية حقيقية عن علاقة المغربي بتاريخه وذاكرته وحداثته. ولا شك أنّ كتابه الفكري الأوّل «الفضاء والجسد» (1996) يُشكّل حالة استثنائية داخل الفكر المغربيّ، بحيث يقف من خلاله ندًا في وجه ركام المتون الفكريّة المغربيّة التي أعادت إنتاج (بالمفهوم الذي طرحته جوليا كريستيفا) التراث الفلسفي العربيّ، وإعادة التفكير في إشكالاته وقضاياه. لقد كان موليم العروسي منذ تلك اللحظة مُفكّكًا ومُناقشًا لهذه الكتابات التي تعيش في غيبوبة الماضي، أمام ما يحبل به الواقع من متغيّرات سياسيّة واجتماعية. على هذا الأساس، لم يكن مفهوم الصورة عند موليم العروسي مجرّد موضة فكريّة تشبّع بها عند أساتذته من ألمع الفلاسفة المعاصرين الذين درس عندهم في السوربون الفرنسيّة، بل مدخلاً أنطولوجيًا لتوطيد فكرٍ جديدٍ داخل الثقافة المغربيّة. إذْ يستحيل وجود قارئ أو أكاديمي في المغرب، لم يتأثّر بكتاباته موليم العروسي واكتشافاته المُذهلة على مستوى المفاهيم وعلاقة الفكر بالنصّ والصورة والجسد والموسيقى واللوحة.
اتّصالاً بقضايا الجسد والنصّ والصورة والفلسفة، التقت منصّة معنى بالفيلسوف المغربيّ موليم العروسي، وكان لها معه هذا الحوار الخاصّ بمدينة الدارالبيضاء المغربيّة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
- الأستاذ موليم العروسي، أوّلاً، ما الذي قادك منذ بداية سبعينيات القرن العشرين إلى الاهتمام بموضوع فكري يتعلّق بالجماليات وذلك من خلال إعداد أطروحة الدكتوراة في فلسفة الفنّ الإسلامي بجامعة السوربون العريقة؟
انطلق المشكل من إشكالية أساسية وهي البحث في موضوع القلق والكتابة. وكنت قد بحثت في موضوع القلق الوجودي عند الصوفية العرب، وتحديدًا عند محمد بن عبد الجبار النفري. وفكرة البحث في القلق الوجودي وعلاقته بالكتابة كانت قد ساورتني قبل الباكالوريا خصوصًا عندما كنت أقرأ نصوص فريديريك نيتشه، ليس لأنني كنت أفهم كل فلسفته، ولكن لأني كنت أبحث عن فيلسوف يكسر الأنساق ويعيد النظر في كل شيء. كانت هذه الرغبة قد تولدت لدي بفعل فورة المراهقة. لكن نيتشه سوف ينسحب من اهتمامي لفترة خصوصًا عندما أعتنقتُ الماركسية. أقول «أعتنقتُ» لأن الأمر كان كذلك؛ إذْ كنت من الذين يتعاملون مع الماركسية كعقيدة، وأظن أنه كان هنالك عدد كبير من مجايلي ينظرون للماركسية على هذا النحو.
وأنا أمارس النضال داخل خلية سرية جعلتني بعض ظروف الالتزام والممارسة النضالية أن أعيد النظر في النهج الذي كنا نتبعه في فهمنا للماركسية. هذه الأسئلة القلقة جعلتني أطّلعُ على كتابات بعض الماركسيين الذي لم يكن الماركسيون المتشددون يولونهم اهتمامًا. أتحدث هنا عن جان لوي ألتوسير (Louis Althusser). لقد كرس هذا الفيلسوف جزءًا من حياته يبحث في مؤلفات ماركس بما هي متن علمي، وتعلمتُ منه أن تحويلَ فلسفة معينة إلى أيديولوجيا خطرٌ كبير؛ لأن الأيديولوجيا تعمي الأبصار، وتجعل الإنسان يدخل في قوقعة وقد تتحول بسهولة إلى فكر فاشيستي استبدادي. ولوي التوسير الماركسي كان زميلا لجاك ديريدا وميشيل فوكو بالمدرسة العليا للأساتذة بباريس، ولكنه كان أيضًا يشير في أبحاثه إلى جاك لاكان عالم النفس الشهير، كما كان يشير إلى رولان بارت، فضلًا عن استعماله لمفاهيم إبستمولوجية من قاموس غاستون باشلار.
إذن بدخولي في عالِم هذا الفيلسوف فإنني قد دخلت أيضًا في عالِم ما سوف يسمى لاحقًا -خصوصًا عند الأمريكيين – «النظرية الفرنسية». وهؤلاء المفكرين لم يمثلوا أفرادًا فحسب؛ بل جهازًا مفاهيميًا متكاملًا تتداخل فيه كل استراتيجيات التفكير. من هنا بدأت أرى في الماركسية الأيديولوجية بعض النقائص التي لم تكن تظهر لي من قبل. من ذلك أنها وفي شكلها العقدي تقدم نفسها على أنها عقلانية أو أراد لها مُطَوِّعوهَا أن تكون كذلك. فكل ما حاربته العقلانية من اليوم الأول عند ديكارت تبناه الماركسيون الأيديولوجيون وجعلوا منه نظامًا قائمًا يقمع حرية الجسد ويكبح أحلام البشر بتوجيهها نحو فكرة الإنسان العامل المستهلك فقط.
ولحسن حظي قرأتُ في نفس السنة قبل أن ألتحق بكلية الآداب كطالب – ودائمًا في إطار النضال – كتابَ «النجم الأحمر فوق الصين» للصحافي الأمريكي إدغار سنو، والذي جمع فيه كل ملاحظاته عندما رافق ماو تسي تونغ في جزء مهم من مسيرته الحمراء. لاحظتُ أن الزعيم الشيوعي الصيني لم يفكر في احتلال العاصمة بيكين، ولم يقم بانقلاب على السلطة المركزية، على الرغم من أنه كان يستطيع ذلك. لم يقم بكل هذا كما فعل لينين، وكما فعل عدد كبير من الذين قاموا بالثورات؛ بل أصر على المسيرة لسنوات عبر كل أرجاء الصين. فهمت من قراءتي للكتاب أن ماو كان يريد للثورة أن تمر عبر الأجساد؛ أجساد الناس بمعنى أنه كان يريد أن يحس الناس أنهم أنجزوا الثورة هم أنفسهم بسواعدهم، ولم تُفرض عليهم من الخارج أو من الفوق.
من هنا انتقلت أسئلتي إلى الجسد الذي كنا نريد تغيير حالته السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية دون أن نفكر فيه. إشكالية الجسد هذه فتحت في فكري وجسدي هوة هائلة. هذا الجسد الذي نعتبره في أدبياتنا السياسية مجرد حيوان يعمل ويستهلك كنا ننسى أن نشير بوضوح إلى أنه يحلم، ويبكي، ويغني ويرقص، ويتألم، ويفرح، ويستلذ، ويؤمن بالعقل والخرافة في الآن نفسه، ويحب، ويكره؛ وهذا النشاط يستهلك منه طاقة وزمن أكثر من النشاط العقلي، لكن العقلانية، والماركسية كما يراها الأيديولوجيون، تزيح كل هذا. واتضح لي أن هذا الجسد الذي يجمع كل هذه المتناقضات يصعب التعامل معه بعقيدة سواء كانت أيديولوجية أو دينية. ليتبين لي أن الجسد يعمل وفق نظام خاص توصل إليه مؤسس علم النفس التحليلي سيغموند فرويد باكتشافه أو بنائه لقارة اللاشعور أو اللاوعي، وإن كنت أحبذ استعمال اللاشعور لأن الوعي تُشْتَمُّ منه رائحة الميتافيزيقا.
هنا انطلق السؤال حول كل ما كَبَتَهُ الفِكْرُ باسم العقل: الشعر، والموسيقى، والصورة، والتصوف، والطقوس السابقة على الإسلام، والتي صنفت في باب الشعوذة والتصرف اللاعقلاني والجنون؛ كل ما اعتبرته الثقافة الرسمية هوامشًا. وبالمناسبة يمكن أن تلاحظ أن استعمال العقل يراد منه التكبيل كما هو وارد في قواميس اللغة العربية بحيث سمي العقل عقلًا؛ لأنه كعقال الناقة يَعْقِلُ النفس عن الهوى، على الأقل هذا ما تقوله بعض القواميس.
وبما أنني كنت بشعبة الفلسفة كان لابد من تسجيل بحث يدخل في هذ الإطار، فكان أول انزياح لي عن الخطابة والدخول في التعامل مع متن، كان كتاب «المواقف والمخاطبات» لمحمد عبد الجبار النفري، وكان الموضوع: القلق (يمكن أن نسميه هنا بحثًا ميتافيزيقيًا، أو وجوديًا) وعلاقة هذا القلق بالكتابة الإبداعية. تعبتُ في الحصول على أستاذ يمكن أن أسجل الموضوع تحت إشرافه. كان في نفس الكلية محمد عابد الجابري يتلمس طريقه في قراءة بعض نصوص المدرسة الفرنسية، ويطبقها على الفارابي والتراث بشكل رث، كما كان ينشر مقالات أخرى بجريدة المحرر المغربية ومجلة أقلام حول «نحن والتراث». وكان يُعَرِّبُ (أو يطلب من تلامذته أن يُعرّبوا) بعض نصوص الأبستمولوجيا بشكل كان يثير سخريتنا، لكننا انتبهنا فيما بعد إلى أن تلك البضاعة وجدت من يُقِبل عليها بِنِهَمٍ في العالم العربي.
هذا ما دفعني إلى الذهاب إلى فرنسا بمجرد حصولي على الليسانس لدخول عالم الاستطيقا الذي كان قد اختفى من كلية الرباط بعد تعريب الفلسفة، ووفاة زكريا إبراهيم، الفيلسوف المصري، قبل أن ألج الكلية؛ حيث كان يلقي دروسًا في علم الجمال باللغة العربية. وكوني اهتديتُ إلى علم الجمال يعود إلى أنني كنت مهووسًا بموسيقى نصوص النفري، وكنت متيقنًا أن نبضات قلبه كانت موجودة في ثنايا الكلمات على شكل إيقاعات موسيقية. ولهذا السبب سجلتُ أطروحة الدكتوراة في السوربون مع الراحل أوليفييه روفو دالون (Olivier Revault D’Allonnes) رئيس شعبة فلسفة الفن والإيتيقا والسياسة، وهو في الآن نفسه متخصص في استطيقا الموسيقى. وكانت بداية البحث في فلسفة الفن، أي علم الجمال.
- ماذا عن انتقالك إلى كتابة الرواية، هل هناك أيّ دافع فلسفي جعلك تقبل على هذا الجنس الأدبي لتوطين أفكارك وهواجسك فيما يتّصل بالفكر والإبداع؟
أولًا أنا لا أفرق في الكتابة بين الأدب، والشعر، والفلسفة، والفكر بصفة عامة، وحتى الفن البصري والموسيقى. كل هذا النشاط الإنساني يهدف لشيء واحد؛ ألا وهو السؤال حول الوجود، حول النشأة والمآل. لذا أن أكتب تأملًا فلسفيًا، أو نصًا روائيًا، أو شعرًا؛ فالأمر لدي سيان. الرواية والشعر والفنون بصفة عامة ليست منتوجات للترفيه، إنها تفكير عميق في الوجود. كيف كتب أفلاطون نصوصه؟ إنها محاورات، وكيف كتب ديكارت تأملاته؟ إنها سرد مليء بالتردد والخوف والقلق والأسى. كيف كتب نيتشه؟ لقد اتضح جليًا بعدما استعان فرويد بمؤلفين أدباء كبار لتحديد مفاهيم علمية دقيقة أن الكتابة – أنَّى كان جنسها، وخصوصًا إذا كانت عظيمة – تفكيرٌعميق في الوجود الإنساني.
أما فيما يتعلق بما سماه النقد «رواية» خصوصًا نصي الأول الذي صدر لي في التسعينيات «مدارج الليلة الموعودة» فإنه اتبع نفس المسار دون تخطيط مسبق. ذلك أنني كنت بصدد إنجاز أطروحة دكتوراة الدولة بالفرنسية حول مفهومي الحب والجمال، وعندما وصلت إلى مرحلة التحرير، وأمام البياض، تحولت يدي إلى يمين الصفحة وبدا السرد بالعربية حول تجربة الحب. كنت أود أن أتحدث عن الحب بصفة عامة من خلال البحث الأكاديمي فوجدتني أكتب عن تجربتي الشخصية في الحب أولًا. ولو عدت إلى نص الأطروحة – والذي سوف ينشر لاحقًا – لوجدت أن التجربة الشخصية وجّهت العمل الأكاديمي بشكل كبير، وأن النص السردي فرض سلطته على النص العلمي بين مزدوجتين. لا يوجد انفصال، بل توجد ذات كاتبة تفكر بدون هوادة وبكل الطرق المتاحة حتى في حلم اليقظة وأثناء النوم. لا أوافق الفكر الانفصامي الذي يظن أن عليه أن يعطل ملكة من ملكاته المتعددة إن هو أراد الانتقال من جنس إلى جنس كتابي آخر. هذه العملية تسمى الكبت اللاشعوري، وهو ما حدث في الفكر اليوناني عندما كبت الفكر الإغريقي الميتوس لصالح اللوغوس.
رواياتي كلها فلسفة وليست للقراءة على شاطئ البحر في فصل الاستجمام. هناك صعوبة كبيرة في قراءتها، قيل لي إنها تأخذ بمخنق القارئ ولا تترك له فرصة الخروج منها ثم العودة إليها متى شاء.
- يُعدّ اليوم موليم العروسي من كبار المُفكّرين العرب المتخصصين في العالم العربي بمجال الجماليات وفلسفة الفنّ. لماذا في نظرك ماتزال الثقافة العربية المعاصرة تعتني بشكل كبير وبارز بالخطاب الثقافي المكتوب، مقارنة بالخطاب البصري الذي يشهد تحولات كبيرة على مستوى بلورة الفكر وجماليات الإنتاج؟
أحسنت عندما قلت الخطاب. الخطاب ليس هو التفكير وليس هو الكتابة. يبدو أن جل ما يُنتج في العالم العربي ليس إلا خطابات حول الفكر. أو بلغة القرون الماضية: هوامش على الهوامش، أو حواشي على الحواشي. عندما تنظر إلى العدد الهائل من الإصدارات التي تطالعنا كل سنة، وتبحث فيها عن نص جريء على المستوى الفكري؛ فإنك لا تكاد تعثر على شيء. يصعب جدًا، إلا فيما ندر، أن نعثر على كاتب يفكر سواء بشِعره، أو إبداعه الفكري، أو الروائي. وعندما تعثر عليه وتحاول تتبع آثار فكره (أي الفكر الأصيل) على القراء يتضح لك أن ذلك كان ضئيلًا جدًا. الإنتاجات الكتابية المطلوبة اليوم لدى القارئ العربي هي تلك التي تكون قريبة من التقرير المدرسي. القارئ العربي، إن وُجد، يُقبل على الوصفات المبثوثة في النصوص على شكل فتاوى جاهزة. وهي نفس الفتاوى التي يرددها ذات القارئ إن في أبحاثه الجامعية، أو في سجالاته اليومية، أو في تعليقاته على وسائل التواصل الاجتماعي. ولذا تجد عددًا من ممتهني الخطاب في الفن مثلًا يتحولون إلى النقد الفني، ويطلقون على أنفسهم لقب، لم أجد له مقابلا في لغات العالم، «الباحث الجمالي».
إذن هناك نفور من المتن في صفائه، ونفور من بذل الجهد في تحليله والبحث في ثناياه عن الفكر. ولذا تجد أن من أراد أن يقبل على التمرن على التفكير ويتحول إلى الحديث عن الصورة فإنه يعمد أولًا إلى تحويلها (أي الصورة) إلى خطاب ليسهُل عليه دمجها في صيرورة الخطابات التي يتعامل بها يوميًا. هكذا تجده يطالب الصورة أو المصور أن يتحول إلى موثق. ولقد كنت قد أشرت في هذا الصدد إلى ما يطالب به عبد الله العروي التشكيليين المغاربة. يطالبهم بتصوير اللباس وتصوير حياة الناس اليومية حتى يستطيع هو المؤرخ أن يستعمل تلك الصور. هذا النوع من التفكير، فضلًا على أنه ينسى وجود متخصصين في هذا المجال، فإنه يفكر بطريقة سابقة على النهضة الأوروبية، أي قبل ظهور أساتذة الفن في ذلك العصر. يجب أن نستوعب أنه عندما تتحدث عن الجمال، وتربطه بالفلسفة، فإنك تشير إلى الممارسة الفنية التي هي ممارسة فكرية وليست مجرد صناعة يدوية. صحيح أن الحرف اليدوية هي الأخرى تنتج محتوى فكريًا، ولكنه في غالب الأحيان غير واعٍ.
دأب فلاسفة الغرب على الانكباب على مبحث الجمال عندما يحسون أن مشاريعهم الفكرية قد نضجت. يجب إذن أن تكون صاحب مشروع لتُسائل في آخر مطافه مدارج الروح؛ تلك العين التي ينساب منها الجمال.
- يبدو موضوع الفن الإسلامي وكأنّه قد استهلك مادّته عل مستوى التأريخ، رغم شح الدراسات العربية التي قاربت تمثلاتها النوعية من الناحية الفلسفية. ما المنطلق الفلسفي الذي قادك منذ بداية مشوارك وأنت ماتزال يافعًا إلى الاهتمام بفلسفة الفن الإسلامي؟
لا يمكن لأي حقل مهما كان أن يستنفذ مادته. أنتَ ناقد بخلفية تاريخية وتعرف بحكم اختصاصك أن التاريخ يتأسس على روايات، وهذه الروايات تكون دائمًا قابلة للمساءلة المنهجية. لذا ترى أن كل عصر وَوِفْقَ ما تَأَتَّى له من مناهج يعيد قراءة التاريخ، ويستنطق المتون. هناك مادة كبيرة ما زالت لم توضع بين أيدي المؤرخين والباحثين والأركيولوجيين. لقد اطلقتَ تسمية الفن الإسلامي من طرف المستشرقين، وهذه التسمية ليست تسمية نابعة من العالم الإسلامي. وفق ما توصلت إليه تعود التسمية للباحث الفرنسي جورج مرساي (Georges Marçais) الذي كان يشتغل بالجزائر، وكان الصديق شربل داغر قد أثار انتباهي إلى أن المصطلح استعمل أيضًا قبل ذلك من طرف جياكومو كازانوفا. على كل حال فالذي حاول أن يضع قواعد فهم وتأويل لما يسمى اليوم فنًا إسلاميًا هو جورج مرساي. ومن ذلك الوقت، أي خلال النصف الأول من القرن العشرين، لم تتقدم الأبحاث بشكل لافت. وذلك راجع في نظري إلى خضوع كثير من باحثي البلدان الإسلامية إلى طريقة الفهم الاستشراقية. فما زالت الأبحاث تجتر بعض المسلمات ذات النفحة المبنية على أفضلية عنصر غربي على العنصر الذي حمل الإسلام على عاتقه فيما يتعلق بالفن. وباحثو العالم الإسلامي يعيدون إنتاج نفس المسلمات دون شعور منهم.
هذا هو المنطلق الفلسفي الأبستمولوجي الذي دفعني، وأنا ألج الجامعة الفرنسية وأسمع الأساتذة الذين قُدِّموا لي على أساس أنهم المراجع في هذا الباب، إلى أن أحاول إعادة النظر في هذه المسلمات. إذا شئت فإن اشتغالي فلسفي بالدرجة الأولى، لكن الموضوع كان آنئذ هو إعادة النظر في النظرة، والمسلمات التي يحملها بعض أساتذتي الفرنسيين عن الفن الإسلامي.
- في كتابك الهام «الفضاء والجسد» (1996) عملتَ بشكل مُغاير على بلورة تجربة فكرية مذهلة داخل الثقافة العربية. وذلك من خلال كيفية قراءة اللوحة الفنّية، ومصادر معرفتنا النقدية الفلسفية والاجتماعية. هذا إضافة إلى الجسد الشعبي وتمظهراته الثقافية والفنية. كيف وعيّت ذاتك فلسفيًا من خلال مجالات فكرية تتصل بالثقافة الشعبية، والفن، والتشكيل، والموسيقى كألوانٍ فنّية قادرة على استنبات فكر نقدي جديد؟
كما سبق وأكدت ذلك في جوابي قبل قليل، تعلمت ألا أعتبر الإنسان من منظور واحد. عندما قلت أن مفكري «النظرية الفرنسية» لم يكونوا أفرادًا؛ معزولين بل هم استراتيجيات متعددة لمقاربة الوجود، نسيت أن أقول إنهم لا يتناقضون، ولا يتكاملون؛ بل يختلفون، واختلافهم لا يعني أن حقيقة الواحد تنفي حقيقة الثاني، بل يتناول كل منهم الوجود الإنساني من بُعْدٍ من الأبعاد المتعددة لهذا الوجود. وكنت عندما فهمت وأنا أقرا تجربة ماو تسي تونغ، أن الجسد هو الضامن للتحول وألا شيء يُفْرض عليه، فهمت أيضًا أن أسراره لا تعطى بسهولة، وإنما يجب البحث عنها في سراديب ملتوية من الذات؛ فاللوحة الفنية التي هي إنتاج جسد إنساني تحمل في طياتها كل ما أشرتَ إليه. لا تجد فيها فقط بُعْدَ التعليم أو بُعْدَ الدين أو بُعْدَ الخرافة بل تجد الثقافة الشعبية في جميع تعقيداتها وامتداداتها التاريخية. كل هذا يتسلل إلى جسد الفنان، والموسيقي، والروائي، والشاعر؛ بل إذا صدقنا فريدريك نيتشه فإنه يسكن حتى تأليف عالم الرياضيات على الرغم من اعتبار الرياضيات علمًا محضًا يدعي أنه لا يمكن للذات أن تتدخل فيه. الشعر العظيم هو الذي يكون صوتًا للشعب دون أن يكون مرتبطًا بفكر آني أو أيديولوجيا وقتية. الشاعر العظيم هو الذي يفتح مسارًا من خلال جسده، ومن خلال نَظْمِهِ لكل أساطير ومعتقدات وأنات شعبه حتى تعود للظهور وتَنْكَتِبَ بشكل جديد ومتجدد. لذا كنت دائمًا أتردد في الإقبال على قراءة شعر شعراء الثورات مهما علا شأنهم الإعلامي.
هذا ما تعلمته من الانتباه إلى كل أبعاد الجسد وتعبيراته المتعددة.
- اتصالاً بالفن، لكن هذه المرّة بعيدًا عن التشكيل وقريبًا من الفوتوغرافيا. لماذا في نظرك لم يتم إلى حد الساعة الاشتغال على الصورة الفوتوغرافية في علاقتها بمواطن فكريّة تتعلّق بالفلسفة والتاريخ والأنثروبولوجيا؟
أنا لا أقصي الفوتوغرافيا من التشكيل، بل هي جزء من التشكيل. حتى الفوتوغرافيا التقريرية التي تستعمل في الجرائد لا تخلو من هذا الجانب؛ وخصوصًا اليوم عندما أصبح الفن المعاصر يعود إلى الذاكرة ويستغل الصور القديمة والجديدة في أعمال فنية رائدة. ولعل الفوتوغرافيا أقرب إلى التعبير الفني انطلاقًا من تسميتها. فهي مكونة من فوتون (photon) أي حبيبات الضوء و (graphe) التي تعني الخط أو الكتابة بمعنى أن الفوتوغرافيا تعني الكتابة بالضوء. يعني أننا عندما نعرض الفيلم على الطريقة التماثلية التي أصبحت اليوم قديمة، فإن حبيبات الضوء تُقَنْبِلُ سطح الفيلم وتترك عليه آثارًا تشبه الكتابة. وحبيبات الضوء تعكسها، أو تغيّر مسارها الأسطح التي ينعكس عليها نور الشمس أو الفلاش. والفوتوغراف الفنان هو الذي سيتعامل مع كمية الضوء، والذي يمكن أن نسميه النور الآن لأنه أصبح يتحرك وفق إحساس شخص يبحث على التعبير، وليس التصوير فقط. قلت المصور الفنان هو الذي يتعامل مع كميات الضوء التي يمنحها لموضوعه حتى يؤثر بطريقة تمتلك قدرًا مُهِمًّا مما يَنْسَلُّ من الروح.
ولعل ما تفضلت به نابع من كون الناس تعتبر أن الفوتوغرافيا نتاج للآلة وليست إبداعًا فنيًا نابعًا من الروح. أضف إلى ذلك أن للمغاربة تاريخ مرير مع الصورة. فعندما كان المغاربة يطالبون بالاستقلال ويترافعون عن ذلك في الأمم المتحدة، كانت السلطات الاستعمارية تصور بعض المظاهر الشعبية التي يظهر فيها أعضاء بعض الطرق الصوفية الشعبية وهم يأكلون الأشواك، ويفترسون الحيوانات وهي حية في طقوس ديونيزية، نسبة إلى ديونيزوس (Dionysos)، ما تزال حية إلى اليوم. كان المستعمرون يستعملون هذه الصور ليؤكدوا للأمم المتحدة أن المغاربة ما زالوا يعيشون وفق نظام قديم همجي، ولذا وجب على فرنسا أن تُكْمِلَ مهمتها التمدينية التي كانت تدّعي أنها جاءت إلى أرض المغرب من أجلها. عمد الوطنيون إذن (لقب كان يطلق على الذين يطالبون بتحرير الوطن) إلى منع الناس، غالبًا بالقوة، من قبول تصويرهم من طرف الأوروبيين، وقاموا بحملة تُشَيْطِنُ الصورة والتصوير. لابد إذن من العودة إلى هذا المكبوت ومساءلته، وهذا ما يمكن أن يقوم به المؤرخ، والأنثروبولوجي، والفيلسوف، وكذلك الفنان.
- لكن، هل تعتقد أنّ الصورة الفوتوغرافية المعاصرة (ليس الحديثة) قد تسعف المؤرّخ على التأريخ من خلالها وعبرها لبعض الأحداث السياسية والاجتماعية، رغم مظاهر التجريد والتجريب والتركيب التي تطبع مناخات الفوتوغرافيا المعاصرة داخل الساحة العربية؟
دأب الناس على اعتبار المصور الفوتوغرافي تابعًا وخادمًا للنص الإخباري. غالبًا ما ندبج النص باسم كاتبه وننسى أو نصر على نسيان المصور. ولكن الذي لا يعرفه الناس في عالمنا العربي هو أن الصورة اليوم هي التي تفتح شهية القارئ. إذا لم تكن هناك صورة جيدة معبرة وتُخْبِرُ بقوة فإن القارئ لا ينتبه للنص. فما أشرتُ إليه سابقًا بخصوص مطالبة الأستاذ عبد الله العروي للتشكيليين برسم محيط الدار البيضاء أو لباس الناس وطعامهم وعاداتهم يوجد في الأرشيفات مكدسًا، صوره الفرنسيون وغير الفرنسيين، وبرغم النزعة المغالية في الفضول والإصرار على الاندساس في حميمية الناس، أو محاولة تركيبها بشكل كاذب، فإن في هذا الأرشيف ما هو مفيد جدًا لمعرفة عادات وتقاليد المغاربة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. من الممكن أن ننتقد هذه المتون الأيقونية كما انتقدنا الاستشراق في الأدب، والفقه، وعلم الكلام، والتصوير، وكما انتقدنا وما زلنا ننتقد النزعات الإثنوغرافية التي سادت المغرب والعالم العربي وأفريقيا، ولكن من المفيد أن نستعمله بطرق ذكية. كل هذه الحالات تظهر إلى أي مدى من الضروري اعتبار الصورة متنًا تاريخيًا يمكن استنطاقه وتأويله تمامًا كما تؤول وتستنطق كل الآثار سواء أكانت مادية طبيعية أو ثقافية بالمعنى الأنثروبولوجي للكلمة.
- كُنتَ صديقًا للمفكّر عبد الكبير الخطيبي وأنجزتما معًا كتابًا مشتركًا حول الفنّ. ما الذي تحتفظ به من الخطيبي اليوم؛ خاصّة على مستوى طرق وآليات الاشتغال على هذا الكتاب الفكري؟
نعم عندما ولجت كلية الآداب كان عبد الكبير الخطيبي قد أقيل من منصبه كمدير لمعهد علم الاجتماع بقرار من ملك المغرب الراحل الحسن الثاني، وأدمج علم الاجتماع في شعبة الفلسفة بشكل سيء جدًا كما كان يقول هو نفسه. وقام بعملية الإدماج عراب تعريب الفلسفة آنذاك محمد عابد الجابري. كما دمج علم النفس أيضًا وبنفس الطريقة. لقد كنت عبرت عن رأيي في هذا الموضوع من خلال هامش من هوامش كتابي «الفضاء والجسد»؛ إذْ كنتُ أعرف الخطيبي بحكم شهرته وبحكم أنني لما بدأت أفكر في الخروج من العصر الأيديولوجي انصبَ اهتمامي على كتبه وخصوصًا «جرح الاسم العلم»، الذي ترجمه صديقنا محمد بنيس بـ«الاسم العربي الجريح». لم يكن عبد الكبير الخطيبي يعرفني رغم أنه كانت تجمعنا علاقة أخرى؛ ألا وهي انتسابنا لنفس المدينة، واختلاط خطانا على نفس أرصفة مدينة الجديدة المغربية.
لم أتعرف على عبد الكبير الخطيبي إلا سنة 1981 عندما نظّم اتحاد كتاب المغرب، الذي كان يرأسه الناقد محمد برادة آنذاك، ندوة مهمة سوف يكون لها تأثير على الفكر المغربي والعربي منذ ذلك الحين؛ ألا وهي ندوة الثقافة الشعبية. كانت أول مشاركة لي على المستوى العلني. كنت على المنصة بجانب عبد الكبير الخطيبي؛ بل وأنني أخذت الكلمة مباشرة بعده. تحدثت عن لغة آلة الكنبري، وهي آلة وترية يستعملها موسيقيون من أصل أفريقي، أي أفريقيا جنوب الصحراء، استقروا بالمغرب لقرون وانتسبوا في غالبيتهم لفرق صوفية تنشط بشمال وغرب أفريقيا. وتنتمي هذه الفرقة (تسمى كناوة) لفرق صوفية شعبية بعضها يستلهم طرق مشايخ مشرقيين كعبد القادر الجيلاني، والبعض يستند إلى مشايخ مغاربة، والكل يؤسس لطريقته انطلاقًا من تقاليد أفريقية موغلة في القدم، لكنها تتفاوض بطرق ملتوية لضمان وجودها، مع الدين الرسمي للبلدان التي تتواجد فيها.
ما كان يهمني هو السؤال الوجودي الذي تطرحه علينا موسيقى تلك الآلة الوترية. وكان هذا أول نص ينشر لي بعد نص حول النفري.
بعدما أنهيت مداخلتي في تلك الندوة فاجأني عبد الكبير الخطيبي بتصفيق أحرجني كثيرًا لحد أنه دفع القاعة إلى الرد بالمثل. بعد نهاية الجلسة الأولى سألني عن شجرة أنسابي الفكرية، وهو ما تطلب منا أن نلتقي مرارًا، ويمكن أن أقول إننا أصبحنا أصدقاء فكريين. وهذا ما جعله يطلب مني أن نكتب بأربعة أيدي، كما كان يقول، نصَ الكتاب الذي تحدثت عنه آنفًا. النص كان بالفرنسية بحيث كتب هو الجزء الأول، وطلب مني أن أكمل. علمًا أنه كانت هناك صعوبة التضاد أو التناقض على مستوى الرؤية، لكن لما طرحت عليه المشكلة قال لي يمكنك أن تتصرف وتراجع مواقفي شريطة أن تقترح علي تصويباتك، وذلك ما كان: تفاوضنا على مواقفنا الفكرية، وكل من يقرأ النص اليوم لا يعرف أين انتهى عبد الكبير الخطيبي وأين بدأ موليم العروسي.
لما زرته بالمستشفى الذي غادره ميتًا سنة 2009، اقترحَ علي أن نشتغل على نص آخر؛ خصوصًا أننا كنا قد أنجزنا كتابًا مشتركًا حول الفنان المغربي عبد الكبير ربيع قبل أربعة أشهر من ذلك، وقد رحبتُ بالفكرة لأنني لم أكن أتصور أن الموت سيختطفه بهذه السهولة، لكنه فعل، وفقدنا عبد الكبير الخطيبي في أوج عطائه.