الأجزاء السابقة من سلسلة مقالات مفهوم الصورة:
(5)
أما وقد بلغت الصورة أوجَّها في التقنية المعاصرة التي عدَّها الفلاسفة المعاصرون أمثال هيدغر «نهاية الميتافيزيقا» أي منتهاها واكتمالها؛ أما وقد تجرَّدت من الحس وولجت في الفضاء الافتراضي أو الاعتباري لتزجَّ بالإنسان في خيالٍ مضاعف، تجعله يرى الأشياء «كأنَّها» الأشياء، لكنها ليست الأشياء، لأنها فقدت الكثافة الحسيَّة وكسبت اللطافة الأثيرية، لكن نراها «كما لو» كانت حسيَّة بالفعل، على غرار الخدائع البصرية التي توهم بأن روحًا تجسَّد وهو يمشي بين الأحياء. إذا جاز الحديث هنا عن «نهاية» الصورة، أي المنتهى الذي وصلت إليه، والاكتمال الذي تميَّزت به، وجب النظر في «البداية» التي جعلت الصورة تنفصل عن الفكرة، أو الفكرة تنشق عن الصورة، مع أن القالب أو المَطْرَس الذي احتواهما هو واحد. «البداية» الممكن تحديدها هي الطبيعة، بحكم أن الفلاسفة قبل سقراط جعلوا من الطبيعة «أفق» كل نظرة إلى العالم، مع أن «البداية» التي تداولها فلاسفة العصر الوسيط كان المقصود بها «الفلسفة» (غادامير، 2002، ص11)، أي الثقافة أو الفكرة عمومًا. وكأن الفاصل بين الصورة والفكرة هو العازل بين الطبيعة والثقافة، من جهة المبدأ الأول للإحساس الذي يفلت من كل عقلنة فورية، ومن جهة أخرى نظام الإدراك أو العقلنة اللاحقة.
تُعدُّ الكلمة الإغريقية eidos من بين الكلمات الأكثر التباسًا، لأنها كلمة تحمل التناقض في مقولها بالذات: تنعت الفكرة والصورة في الوقت نفسه، وتنعت الفكرة الخالصة (الشكل) دون الصورة (الوهم مثل الأيدولة أو الصَّنم). الأيدوس الإغريقي يقول «المظهر» لغويًا، و«الجوهر» اصطلاحًا، وينفصل هكذا عن الأيدولون الإغريقي أو «الأيدولة» وهو المعنى الذي التصق بالصورة بوصفها الشيء المتدهور الذي يدل على الشيء المتجوهر. «أيدولون» هو اسم التصغير للكلمة «أيدوس» ويقول التصغير مثل كتاب وكُتيِّب؛ والتقليل مثل درهم ودُرَيهم؛ والتحقير مثل شَاعِر وشُوَيْعِر. انطلى اسم التصغير على الاصطلاح نفسه، أي على مصير الصورة بصيرورتها الملعون أو المطرود. يُمثِّل الشاعر والسُّفسطائي والفنَّان نماذج هذه اللعنة اللصيقة بالصورة؛ لأن ما كان ينطبق على الصورة في تلك المساحة اللغوية الإغريقية هو المظهر والوهم، وليس أشدُّ مظهرًا ووهمًا سوى العالم الحسي إذا نظرنا إلى المسألة من منظور أفلاطوني، أي الصورة بصفتها تقليدًا أو محاكاة. ليس عالم المظاهر سوى تقليد لعالم الجواهر.
- الصُّورَة والفِكْرَة: قِصَّة العَزْل
إذا ترجمنا ذلك نقول بأن الصورة هي الصيغة المتدهورة والمشوَّهة للفكرة، على غرار العُملة الصدئة التي فقدت قيمتها في سوق التداول؛ أو قطعة نقدية مزوَّرة تُبرِز عكس ما تحجب، تُبرِز نصاعتها الزَّائفة (صفراء مثل الذهب) وتحجب حقيقتها المزوَّرة (إنها ليست ذهبًا). إذا أخذنا الصورة بهذا الوصف، فإن كل ما ينطبق على تجليَّاتها في الفن والأدب هو مظاهر زائفة مثل اللوحة الفنيَّة التي توهم بأنها تعكس الطبيعة عينها، أو زخرف الأسلوب في الحَكْي يراعي المظهر البياني أكثر من الجوهر النظري. جاء هذا الفاصل إذن من العزل الذي أجراه أفلاطون بين الفكرة أو النموذج، والصورة الحسيَّة التي هي النسخة المتدهورة من النموذج المفارق. غير أن إقصاء الصورة والتحذير من مخاطرها لم يكن فحسب على أساس المظهر، بل كذلك وخصوصًا على أساس المطابقة أو المشابهة (homoiôn)، أي أن الصورة «تحل محل» النموذج «كأنها هو»، تمامًا مثل العُملة النقدية ذات اللون المذهَّب وما هي بذهب. اللعب على الالتباس والتشابه أي «الشَّبَه» وبشكل أخص «الشَّبَح»، وفي كل الأحوال «اللَّيْس» بتعبير الفيلسوف أبي يوسف يعقوب الكِنْدي، اللاشيء أو العدم، هو ما التصق بمدلول الصورة. الشَّبَه الذي يقول الاشتباه، يقول كذلك فقدان الكينونة، أي وجود شيء وهمي، له مظهر لكن ليس له جوهر، على شاكلة الشَّبح الذي تجلَّى جسدًا وما هو بجسد.
ترتبط الصورة بسؤال «المحاكاة» بتصاريف متنوِّعة أشرنا إليها وهي المشابهة، والشَّبَه، والاشتباه، والتي عندما تنتقل إلى العبارة، أي «الحَكْي أو الحِكَايَة»، فإنها تُولِّد صورًا بيانية تتجلَّى في الاستعارة والمجاز والتورية والتبديل والتناقض الظاهر وغيرها من الأساليب. لأن في كل الأحوال، سواء أتعلَّق الأمر بالفن أم بالأدب، فإن المحاكاة هي المرادف القوي للصورة، بإعادة إنتاج الطبيعة في اللوحة الفنيَّة أو استنساخ الحياة اليومية في السَّرد تنتج عنه القصَّة والرواية أو تمثيل الواقع في المسرحية أو الفيلم وغيرها من التعابيرالثقافية. لذا، يمكن عدُّ كل هذه المنتجات الثقافية والنتائج الفنيَّة والأدبية بوصفها عناصر من الصورة، ما دامت المحاكاة هي التي تغلب في نمط العلاقة بالطبيعة أو الواقع وإعادة نسخهما في لون أو أسلوب أو شريط سينمائي. من ثمَّ فإن هذه المنتجات والنتائج تبدو متدهورة بالمقارنة مع الأصل، أي مجرَّد تقليد أو مماثلة في تحويل الطبيعة إلى الثقافة (لوحة زيتية، رواية أدبية، شريط سينمائي، إلخ). غير أن هذه المنتجات والنتائج تُحاكي أصلًا ولا تُحاكي مظهرًا. بهذا المعنى ننتقل من «الأيدولة» ذات الجذر الإغريقي (weid-) الذي يعني «الرؤية» وكل ما يرتبط بها من انطباع وانعكاس ووهم إلى «الأيقونة» ذات الجذر الإغريقي (weik-) الذي يعني «المماثلة» وكل ما يرتبط بها من ملاءمة ومطابقة.
وعليه فإن الفاصل الذي وقع في تاريخ الكلمة، لم يكن فحسب بين النموذج وما يُعبِّر عنه، بل بين أشكال التعبير إن كانت تدل على النموذج وتحيل إليه وتماثله وتلائمه (الأيقونة) أم كانت تحجب النموذج بأن تحيل إلى مظهرها «وكأنَّها» النموذج (الأيدولة). أي أن المسألة هي بالدرجة الأولى العلاقة بالمعرفة المتدرِّجة في نظام الوجود، والحقيقة المتجليَّة في صدر هذا الوجود. عندما نتأمَّل جيِّدًا في الفاصل المذكور، نجد بأن الجذر الذي انحدرت منه الأيدولة (الصورة-المظهر) يقول الرؤية وبشكل أوسع «الرَّأي» أو الظن الذي عدَّه أفلاطون شبه-معرفة أو معرفة غير يقينية؛ والجذر الذي انحدرت منه الأيقونة (الصورة-النسخة) يُعبِّر عن المماثلة أو المقايسة، أي قياس الأشياء بنماذجها ومطابقتها لها مثلما تلائم أبعاد القَدَم النَّعل أو الحذاء. من هنا تتميَّز الأيقونة عن الأيدولة وتتفوَّق عليها في التعبير عن النموذج، من حيث أنها تطابقه لأنها نسخة منه، ولا تشبهه إلى غاية الالتباس والغموض فنأخذ «هذا على أنه ذاك»، «كأنه هو»، ومن ثمَّ فإن الأيدولة تحجب النموذج من باب هذه المشابهة-الاشتباه، فتتقدَّم وتؤخِّره، أي تسلب خصائصه وتُنفيه. في تشنيعه لهذا النمط من الصورة، التي يمكن أن نُسمِّيه «النمط الأيدولي»، استثنى أفلاطون الصورة النابعة عن الخالق الذي يصنع العالم في أجمل مشهدٍ ممكن.
معنى ذلك أن الصنائع البشرية وحدها هي التي ينطبق عليها تشنيع الصورة، لأنها صنائع تُقلِّد نموذجًا ما؛ ولأن هذا التشنيع سيُطال كذلك الصورة الدينية كما توقفنا عندها سابقًا، بمعنى العجز عن تصوير العُنصر الإلهي في صورة حسيَّة. لكن سُرعان ما تراجع التشنيع لصالح التبنِّي لاعتبارات فقهية ولاهوتية وسياسية خاصَّة بالمسيحية. إذا قرأنا قصَّة تشنيع الصورة من المنظور الأفلاطوني وإلى غاية التصوُّر البروتستانتي، الأيقونكلستي في جوهره والمناهض للكاثوليكية، سنجد بأن الصنائع البشرية هي وحدها التي تتحمَّل هذه الصفة، سواء أتعلق الأمر بالفن أم بالأدب، لأن الصورة الأدبية هي الأخرى حصيلة المخيِّلة البشرية وإن كانت تصف واقعًا أو تعكس معيشًا. هناك دائمًا عناصر من التخيُّل أو الوهم تتسلَّل في صناعة العبارة الروائية أو الشعرية. لكن ما الأمر الذي أتاح الانصراف عن الصورة؟ ولصالح ماذا؟ إذا كانت «أيدوس» تختزن على عُنصرٍ مساوق لها ولا يعكس أصالتها وهو الصورة-المظهر، فإن «لُوغُوس» هو الذي يتيح التحرُّر من حبائك الصورة والتوصُّل بشيءٍ من جنس طبيعته وهو «الفكرة». كلمة «لوغوس» مزدوجة الدلالة، تقول في الوقت نفسه الكلمة المنطوقة والفكرة المتمثَّلة. «لوغوس» هو في الوقت نفسه العقل والقول، أو التفكير والتعبير، متَّحدين لأنهما يدلَّان تقريبًا على الشيء نفسه: يمكن القول بنوعٍ من التبديل أو كياسموس بأن «التفكير» هو تعبير صامت، وبأن «التعبير» هو تفكير ناطق.
وعليه فإن «لوغوس» هو الذي يضمن انسجام التفكير والتعبير، حيث أن الفاقد للتفكير السليم يفقد كذلك التعبير السليم (لا يتفوَّه بكلمات غامضة وغير متناسقة سوى من اختلَّ في ذهنه الرابط بين الخواطر والأفكار). «لوغوس» هو الاستدلال بالأفكار بترتيبها والتنسيق بينها. لكن أليست الفكرة هي صورة من نوعٍ خاص؟ أليست الخواطر هي صور ذهنية من صُنع الإنسان؟ ما الأمر الذي يجعل الصورة في مقامٍ أدنى من الفكرة إذا كانت الفكرة نفسها هي صورة ذهنية تحمل تصوُّرًا عن شيءٍ من العالم؟ إذا أخذنا الفكرة بهذا المعنى النفسي، فهي بالفعل صورة ذهنية حول شيءٍ أو حالةٍ من العالم. لكن إذا أخذنا الفكرة بالمعنى الأنطولوجي، فهي المثال الذي ارتقى به أفلاطون إلى مصاف النموذج الناصع. من ثمَّ فإن الصور الحسيَّة ما هي سوى أفكار جمالية (الرابط بين «الحس» aisthêsis و«الجمال» aesthetics) مساوقة للأفكار المتعقِّلة التي هي صور ذهنية. يكمن وجه الالتباس مثلًا، وهو مسوِّغ أفلاطون في عراكه مع السُّفسطائي، أن هذا الأخير يصنع الصور التعبيرية بالقوَّة الجمالية والإيحائية عبر زخرف القول والأسلوب، لكن لا يصنع الصور الفكرية التي «رابطها» هو اللوغوس أو سلسلة الاستدلالات التي تبتغي الحقيقة. السُّفسطائي هو على مستوى «المعرفة الجزئية»، لا على صعيد «العلم الكلي» الذي يرتبط بالحقيقة.
وكأن التعيير الأفلاطوني للسُّفسطائي بالفارق بين الجزئي والكلي، بين المعرفة والعلم، هو تقبيح للحسِّي (الجزئي) الذي يستولي على العقلي (الكلي) ويحجبه مثلما تحجب الشجرة الغابة. نُدرك ذلك عندما نقرأ مثلًا ما قاله القاضي تقي الدين ابن دقيق العيد بشأن المتصوف عبد الحق ابن سبعين كما أوردها الصفدي: «جلستُ مع ابن سبعين من ضحوةٍ إلى قريب الظهر وهو يسردُ كلامًا تُعقَل مفرداته ولا تُعقَل مركَّباته» (الوافي بالوفيات، ج18، ص37). إذا قرأنا انطباع القاضي ابن دقيق العيد نُدرك بأن سرد ابن سبعين كان في مقام المعرفة لا في مقام العلم، حيث تُعرف المفردات منعزلة عن بعضها بعضًا، لكن لا تُدرَك الفكرة الجامعة، أي ما يربط ربطًا منطقيًا بين تلك المفردات. وهنا بالضبط ينجلي مفهوم «لوغوس» على أنه الصِّلة أو العلاقة، أي الربط بين المفردات في سلسلة من الاستدلالات التي تنتهي بأن تُركِّبَ المجموع في وحدة معقولة هي الفكرة. إذا جاز لنا استعمال صيغة أخرى لابن عربي نقول بأن الصورة هي مسألة «كثرة مشهودة» (الحس، المفردات)، والفكرة هي قضية «وحدة معقولة» (العقل، المعنى). إذا كان هذا صحيحًا بالنسبة للفلسفة التجريبية التي لا تفصل الصورة الحسيَّة عن الصورة الذهنية، ولأن نظرية المعرفة تجد أساسها في المحسوس الذي يستمدُّ منه المعقول أساسيات الأفكار (جون لوك وديفيد هيوم مثلًا)، فإن الأمر يختلف مع الفلسفة التأمُّلية التي تفصل الصورة الحسيَّة عن الصورة الذهنية، حيث يستقل العقل بتوليد أفكاره من باطن تعقُّله بعد أن تخلَّص من عقبات الشك والتضليل، وتوصَّل بالأفكار اليقينية والناصعة (ديكارت مثلًا).
- الصُّورَة وَالكَلِمَة: نَمَط الوَصْل
هذا التجاذب بين الفصل والوصل الممكن إجراؤه بين الصورة والفكرة أو بين الحس والعقل، هو عينه التذبذب الممكن الوقوف عليه بين الكلمة والصورة. الكلمة هي الفكرة وقد تجسَّدت في التعبير، ومن ثمَّ فإن ما ينطبق على الفكرة يشمل كذلك الكلمة. هل الكلمة هي صورة من نوعٍ خاص؟ علاوةً على كونها كلمة منطوقة (فونيم أو وحدة صوتية)، هل الكلمة هي «صورة مشهودة» في الكتابة والأسلوب و«صورة معقولة» في ذخائر الأدب وصوره البيانية؟ أحسن من يُمكنه أن يجيب عن هذه الأسئلة بحكم أنه باشر إجراءً عكسيًا بالذهاب من العلم إلى المعرفة، أو من الكلي والشمولي إلى الجزئي والواقعي، أي من العلم بالمعنى الوضعي والمنهجي إلى الفن بالمعنى الجمالي والأنطولوجي، هو الفيلسوف الألماني هانس غ. غادامير. تُعدُّ دراسته «الكلمة والصورة» دراسة نبيهة أضاف إليها عنوانًا فرعيًا: «على قدر الحقيقة تكون الكينونة» المقتبَس عن الشاعر يوهان غوته. ينطلق غادامير من التماثل بين الشعر والرسم ليُدعِّم التواشج بين الكلمة والصورة (Gadamer, 2007, p.195)، على منوال الشعار العابر للقرون والتيَّارات الفنيَّة: «يُشْبهُ الشِّعْرُ الرَّسْمَ» الذي توقفنا عنده في الحلقة الثالثة من سلسلة «مفهوم الصورة». لا تخص العلاقة بين الكلمة والصورة فحسب هذه المماثلة بين الشعر والرسم أو بين الإيقاع واللون، بل تُبرز كذلك الكيفية التي تُعبِّر بها الكلمة عن الصورة في صيغة تأويل أو شرح (تأويل لوحة زيتية مثلًا).
يمكن القول على منوال المخضرم نيكولا الكوزي (القرن الخامس عشر الميلادي)، الذي كان همزة وصل بين العصر الوسيط وعصر النهضة، أن الصيغة الأولى هي «المختصر» من حيث أن الشِّعر يختصر في القصيدة خلاصة العالم بفوَّارة الكلمات المكثَّفة والمركَّزة، والصيغة الثانية هي «المفصَّل» من حيث أن التأويل يشرح المرئي أو يُفصِّله في الكلمات التي تتخذ شكل نصوص، ويسترسل في الكلام ليُعطي للصورة الفنيَّة كل الأبعاد المعرفية والوجودية التي تستحقها. الصيغة الأولى هي تقليص ماضي الذاكرة ومستقبل التوقُّع في حاضر الحس (يلعب الشاعر على وتر الخيال والتنبؤ في اللحظة الراهنة، وهنا تكمن عبقريته وقوَّة نَظْمه)، والصيغة الثانية هي توسيع حاضر الحس في ماضي الذاكرة (جينيالوجيا) ومستقبل التوقُّع (استشراف). أداة المَفْصَل أو الربط بين التقليص والتوسيع هي «الحَدَث» أو ما يطرأ، آتيًا من الماضي في صيغة تذكُّر، أو قادمًا من المستقبل في صيغة انتظار. يُلاحظ جان غروندان، مترجم غادامير، أن الكلمة الألمانية الدالة على الحاضر (Gegenwart) تنطوي على فكرة الانتظار (warten)، وما يُنتظَر هو دائمًا حَدَثٌ في صورة حُدُوثٍ؛ ذكرى تقفز إلى الذهن أو تكهُّن يرى الآتي في الآني. «الحاضر» هو إذن أداة المَفْصَل في الربط بين زمانين، أحدهما معروف قد انقضى، والآخر مجهول ما يزال في طي الإمكان، تمامًا مثل الخيط الرفيع الذي يصل-يفصل بين الوجه الظاهر للقمر ووجهه المتواري.
الحاضر هو «حاضر الحس»، ما يُشعَر به (شاعر؟)، إنه «حاضر التجربة». ليس النَّظم والرَّسم سوى تجربتان تقولان وهج الحاضر وقد انصهرت فيه خبرة الماضي وجرأة المستقبل. لكن فيما «الكلمة» هي محط اختلاف بحكم التباين في الثقافات، فلا يقرأ العرب «شيشرون» بالصيغة نفسها التي يقرأها الغرب، ولا يقرأ الغرب «الجاحظ» بالصيغة نفسها التي يقرأها العرب، فإن «الصورة» هي موضع اتفاق نسبي، فنرى اللوحة الزيتية عينها (مثلًا فان غوغ) أو الشريط السينمائي نفسه (مثلًا السينما الصامتة لتشارلي تشابلن)، فنُدرك المعنى المشترك الذي ينبري من الرسم أو من الفيلم. إذا لم تكن الكلمة هي موضع اتفاق فإن «حاضر التجربة» يردم الهوَّة بين الثقافات عبر «الترجمة» التي هي تجربة حاضرة في ربط ماضي النص بحاضر المتلقي، أو تقريب ثقافة الآخر بثقافة الأنا، فنقرأ دوستويفسكي أو شكسبير في لغتنا نحن، كما لو كانا يتوجَّهان إلينا طالما أن التجربة السردية التي تجسَّدت في الكتابة تنعت الإنسان بأحاسيسه وهواجسه بغض النظر عن الإقليم الجغرافي أو السياق التاريخي الذي وُجد فيه. من هنا كانت «الرواية» هي تجربة محلية (السياق، المعيش) تبتغي العالمية (الأفق الكوني) التي تصل إليها بوساطة الترجمة. دوستويفسكي أو شكسبير هو «محلي» في لغته، لكنه «عالمي» في اللغات الأخرى التي تُرجِم إليها. ولا تأتي العالمية سوى بنقل المعيش من الكلمة إلى الصورة، من تجربة الحياة في الكلمة النابعة من تراثٍ أو ثقافةٍ إلى تجربة الذوق والتصوُّر التي تنطوي عليها لغة أخرى.
فضلًا عن ذلك، نقل التجربة من الكلمة إلى الصورة معناه الإحجام عن وضع العمل الفني أو الأدبي في إطار المعرفة (نقل المعلومات أو إعادة إنتاج نُسخه المتواترة)، ووضعه في إطار الوجود (الإدراك المباشر لكينونته). لا نُدرك قيمة اللوحة الزيتية سوى عندما «تُعْرَض» أمام أعيننا وننصت إلى ما تقوله مشاهدها، بغض النظر على المعلومة التاريخية حول الرسَّام وزمن الرَّسم. بتجريد الفن من المضامين التاريخية والموضوعية نرتقي إلى البُعد المطلق والروحي الذي يختزن عليه. غير أن هذا الجدل الصاعد نحو القيمة الروحية السَّامية لا يستقيم دون الجدل النازل نحو التأويل الذي يُجريه المشاهد على اللوحة التي يتأمَّلها. تجربته التأويلية، بما هي تجربة الحاضر، هي إذن سياقية أو تداولية، أي نسبية وترتبط بمجموع الشروط الكائنة حول إنتاج المعنى من قراءة الأثر الفني. أمام الصورة نحن بحاجة إلى الكلمة لوصفها وتأويلها. إذا كان الانطباع ينمُّ عن حسٍّ مشترك بوساطة العين الناظرة التي تشاهد المشهد عينه، فإن ما يترتَّب عن هذه المشاهدة من معنى أو فكرة إنما يتطلَّب الكلمة بمختلف تجليَّاتها الأسلوبية والحُكمية. فهو يقتضي التأويل بمستويين مختلفين: 1. المستوى النصي بإنتاج خطاب شارح حول مضامين الأثر الفني أو الأدبي؛ 2. المستوى العَرْضي بحيث عندما نقول إنّ شخصًا «أوَّل» معزوفةً أو مسرحيةً أو رقصةً، فإنَّا نقصد بأنه أدَّها ببراعة. ننتقل هنا من النظري إلى العملي، من النظر إلى الفعل.
لذلك مسوِّغٌ لغوي اجتاز الزمن وهو أن الكلمة الإغريقية poiesis التي أعطت poetry كانت تُقال عن الصناعة التي ينجرُّ عنها أثر مكتمل. لذا كانت العرب تقول صناعة الشعر، وصناعة العبارة، وصناعة المنطق، إلخ. «بُويْسيس» لها غايتها في غيرها لأنها تنتهي بإنتاج تُحفة (لوحة زيتية، قصيدة، إلخ)، فيما «بْرَاكْسيس» (praxis) لها غايتها في ذاتها، لأنها فعل آني أو فوري لا يُنتج شيئًا خارج الذات، سواء أتعلَّق الأمر بفعل الرؤية (التأمُّل) أم بفعل المشي (الحركة). من ثمَّ فإن بعض التأويلات ليست ذات دلالة «بُويْسيَّة» بإنتاج نص أو تُحفة، بل هي ذات غاية «بْراكسيَّة» في شكل إنجاز: عزف على البيانو، رقص، مسرحية، إلخ. لا شك أن العزف أو العرض المسرحي يسبقه نص يتمُّ تأديته أو تكون نتيجته أن يصير نصًّا يُحتذى به. لكن «حاضر التجربة» هو بْرَاكْسي بامتياز. الحاضر هو عملية في الإنجاز والتنفيذ والخلق، بخلاف الماضي الذي تجمَّد في ذاكرة بُويْسيَّة (معمار، مخطوط، خزف) أو لا يزال في طيَّات توقُّعٍ (مشروع، مخطط، برنامج). إذا جاز لنا الحديث مثل دو سارتو (De Certeau, 1984, p.34-35) نقول بأن تجربة الحاضر هي «تكتيكية» بين «استراتيجيتين»، الاستراتيجية الأولى هي ما تجمَّد من الماضي في أثار مشهودة في الحاضر، والاستراتيجية الثانية هي ما تهيَّأ في الحاضر ليتوجَّه نحو المستقبل بمجموع المشاريع والبرامج.
العلاقة بين الاستراتيجية والتكتيكية هي نظير العلاقة بين الثابت والمتحوِّل، أو بشكل أخص يمكن اقتباسه من الإغريقية في مختلف تكيُّفاتها الفلسفية مع أفلاطون وأرسطو، وهي أن ما يعتمل في تجربة الحاضر هو «ما لم يكتمل بعدُ» ولا يزال يتحرَّك (energeia)، فيما اكتمل النص بصيرورته أثرًا مغلقًا (ergon). الصيغة الأولى هي «المتمِّم» بالزوائد الأسلوبية والبلاغية، والصيغة الثانية هي «المقوِّم» بما اكتمل عضويًا ووظيفيًا، إذا جاز اللجوء إلى معجم إخوان الصفا في المقوِّم والمتمِّم. ماذا يمكن لهذه الثنائيات المقتبسة من مختلف تطبيقاتها القديمة والمعاصرة أن تفيدنا في العلاقة بين الكلمة والصورة؟ إذا كانت تلك الثنائيات تقوم إذن على بداهة الثابت والمتحوِّل، أي النص المغلق والمكتمل والتأويل المفتوح واللانهائي، فهي تنعت نمط الخلق والإنجاز بين «ما اكتمل» (الصورة) و«ما لم يكتمل» (الكلمة). تميل الصورة بطبعها نحو الثبوت، من الأيدولة العريقة (الصنم) إلى النص المكتوب (الأثر)، فيما تنزع الكلمة نحو الحركة، من المدلول المسيحي للكلمة-البدء [إنجيل يوحنَّا 1:1] في اصطحاب الألوهية المتجسِّدة في العالم لمصير البشر إلى المدلول اللغوي والثقافي في الحوار الشفهي الحي والقراءة والقصيدة والنشيد. لا تزال «الكلمة» تتكلَّم، من «البدء الذي لم ينقطع» (ابن عربي) إلى «الميلاد الذي لا يزال يحدث» (المايستر إكهرت).
- الكَلمَة والفِكْرَة: الأدَب و/أو الفَلْسَفَة
الكلمة هي ما يُحرّك الأثر الجامد. ليس النصُّ نصًّا إذا لم يُقرأ في حاضر التجربة التأويلية. القراءة (الكلمة إذن) هي ما يُعطي المرئية والمقروئية للنص. يُعرِّفها غادامير بهذه الصيغة: «أسمِّي “قراءةً” الحدث الذي يطرأ في الصورة أو في الأثر المكتوب» (Gadamer, 2007, p.217). يدل الفعل «قَرَأ» على الجمع والتفرقة في الوقت نفسه، من جهة «جمع» الدلالات والأدلة في حُزمة من المعنى يُراد بها حقيقة معيَّنة؛ ومن جهة أخرى «تفريق» العبارات بتهجئة المفردات نُطقًا وكتابةً بالنظر في الإيقاع والنَّحو، على أساس أن الكل لا يستقيم ما لم تنسجم الأجزاء فيما بينها. نعود مرَّة أخرى إلى ملاحظة القاضي ابن دقيق العيد أن المفردات المنعزلة لا تصنع المعنى. وحده المعنى، بوصفه حُزمة (grasp) تبتغي الفهم، الذي يمكنه أن يُعطي للمفردات المنعزلة والغامضة مركَّبًا منسجمًا ومعقولًا إذا تمَّت عملية «الرَّبط» بنجاح، فقط لأن ما نُسمِّيه المعنى والفهم والتأويل ليس شيئًا آخر سوى هذا «الرَّبط» بين الأجزاء (الصوت، الصورة، الخط) من أجل وحدة معقولة. ليست هذه الوحدة المعقولة فقط ما يُنتجه القارئ من معنى في حضرة النص، بل هي كذلك ما يطرأ في النص من «حَدث المعنى» كما لو تكرَّر المعنى في صيغٍ جديدة باختلاف القراءات والتأويلات والأزمنة والسياقات، لكن يبقى هو ذاته (النص) في عين اختلافه (القراءة).
تبقى المشكلة في معرفة: كيف نُفكِّر في النص؟ هل نُبقي على الحدود المعلومة بين النصوص على شاكلة الحدود السياسية بين الدول؟ هل يُقرأ النص الأدبي «أدبيًا» فحسب؟ هل يُقرأ النص الفلسفي «فلسفيًا» فقط؟ ألا توجد تقاطعات وأحيانًا انتقالات بين الضفَّتين أو بين الإقليمين؟ هل من الوجاهة حصر الأدب في «الصورة» والفلسفة في «الفكرة»؟ ألا يجدُر العودة إلى الذاكرة المفقودة في تواشج الصورة والفكرة مثل العودة إلى الذاكرة البابلية (لا يهم إن كانت أسطورية أم تاريخية) لاقتناص الوحدة اللسانية المتعالية قبل الكثرة اللغوية المشهودة؟ تُبيّن مارتا نوسبوم كيف أن «الشكل الأدبي لا ينفصل عن المحتوى الفلسفي، بل هو في ذاته محتوى؛ جزء كامل من البحث عن الحقيقة» (Nussbaum, 1990, p.3). معنى ذلك أن العلاقة بين الأدبي والفلسفي يُفكَّر فيها من باب التبديل أو التداخل (chiasmus)، يُفكَّر فيها بلاغيًا، ما دامت هذه الأخيرة لها قَدَم في الأدبي وقَدَم في الفلسفي أو عناصر أدبية في «الفلسفي» وعناصر فلسفية في «الأدبي»؛ أو إذا قمنا بالاستعانة بمخطَّط فِنْ (Venn Diagram) نقول بأن البلاغة هي ما يتيح «التداخُل» بين البيان الأدبي والبرهان الفلسفي؛ هي الحظيرة التي تجتمع فيها الصور البيانية والحجج البرهانية.
لكن أكثر من مجرَّد تبديل أو تداخل أو تشابك من شأنه أن يُنفي الحدود ويُخلط الأنواع، لأن في كل الأحوال، لا بدَّ للنَّوعين أن يستقلَّا بإواليات وهويَّات خاصَّة كما يُقرُّ دريدا (Derrida, 1988, p.30)، يمكن الحديث عن نوعٍ من «التَّشاكُل» الذي لا يقول التشابه عُنوان الاشتباه إذا نظرنا إليه من منظور الشَّاعر الصَّاحب ابن عبَّاد «وَتَشَابَهَا فَتَشَاكَلَ الأمْرُ»، بل يقول في الحقيقة «التفاعُل بين الأشكال». للأدب شكل وللفلسفة شكل، والتشاكل بينهما هو التفاعُل بين الأشكال التي تحمل عناصر بيانية من جهة، وعناصر برهانية من جهة أخرى. لا يمكن ألَّا نرى في حوارات أفلاطون «شكلًا أدبيًا»، ولا يمكن ألا نرى في مسرحيات شكسبير «شكلًا فلسفيًا». كلا الشكلين حاضرٌ بنسبةٍ في النَّوعين: «التصوُّر والشكل مرتبطان ببعضهما البعض» (Nussbaum, 1990, p.5). من ثمَّ فإن الفكرة في سيرورتها نحو التعبير تغترف من حظيرة البيان، والصورة في مسارها نحو التَّسويغ تستقي من حظيرة البرهان. أحدهما مُكمِّل للآخر، من حيث أن الفكرة تحسُن وتعذُب وتجد انسجامها واكتمالها بالشكل اللغوي أو البُنيان الأدبي، وتمتُن الصورة وتتعزَّز وتجد صلابتها النظرية بالشكل البرهاني أو العمران الفكري: «لا أظن، يقول دريدا، بأن الشكل “البرهاني” ولا حتى الفلسفة هما غريبان عن الأدب. كذلك مثلما هناك أبعاد “أدبية” و”تخييلية” في كل خطاب فلسفي […]، هناك وحدات فلسفية (philosophemes) فاعلة في كل نص يتحدُّد كنص “أدبي”» (Derrida, 1988, p.31).
مسوِّغ ذلك أن الخطاب الفلسفي يتكلَّم بلغة طبيعية تغلب فيها الصور البيانية. باءت محاولات تخصيص الخطاب الفلسفي بلغة صورية محضة بالفشل، أي لغة منطقية ورمزية تُعبِّر عن الفكرة بالوحدة المنطقية أو الرياضية. لا شك أن هذه الصيغة لا تزال فاعلة، خصوصًا فيما يُسمَّى بالفلسفة التحليلية (الأنجلوسكسونية) على العكس من الفلسفة القاريَّة (الأوروبية)، حيث يغلب البرهان والمنطق والتفكير الناقد، بمعنى أن تُسوِّغ الفكرة ذاتها بذاتها، وبأسلوب منطقي ورمزي موجز ورياضي، تفاديًا للإسهاب الذي من شأنه أن ينزع نحو الأشكال البيانية، وعلى منوال ذلك نحو الصيغة التي تنبري منها السَّفسطة. يمكن القول بأن نزوعًا «أيْقُونُكْلَسْتيًا» (يمقت الصورة) استبدَّ بهذه الفلسفات التحليلية التي تُطهِّر الخطاب الفلسفي من المنفى الأدبي وتربطه بالعُنصر العلمي (الرياضي والرمزي) في التعبير عن الفكرة. غير أن الخطاب الفلسفي لا يتحدَّث بلغة اصطناعية ملؤها الجداول والإحداثيات والرسوم التخطيطية والرموز الرياضية. الخطاب الفلسفي هو لغة طبيعية تجد فيها الصور البيانية حقَّها في التعبير دون أن يُنقص ذلك من صحة الفكرة منطقيًا أو متانتها برهانيًا. من يقرأ نصوصًا على شاكلة «التأمُّلات الميتافيزيقية» لديكارت أو «في أصل التفاوت بين البشر» لجان جاك روسو، يُدرك التشاكل بين الفكرة الفلسفية والصورة الأدبية، وهو تشاكل تجذَّر وتعزَّز مع المعاصرين أمثال نيتشه وفوكو ودريدا ودولوز، الذين يُنعتون كذلك بفلاسفة الاختلاف منذ بروز تيَّارات ما بعد الحداثة.
بظهور هذه التيَّارات انهارت الجدران العازلة بين الأدب والفلسفة، وإن كانت تكشف عن نوعٍ من الراديكالية والأيْقُونُوفيليَّة الجذرية (عشق الصورة)، وأحيانًا الفوضوية التي لا تحتكم إلى قانونٍ يُنظِّم الإقليم المعرفي، إن كان أدبيًا أم فلسفيًا أم فنيًّا. يشرح جوفانوفيك (Jovanovic, 2021, p.124) كيف أن التشاكل بين الأدب والفلسفة يمكن النظر إليه من ثلاث زوايا متدرِّجة: 1. استعمال مصادر فلسفية لإثراء النص الأدبي مثل عند تشارلز ديكينز في بعض نصوصه؛ 2. أفكار فلسفية مطبَّقة للكشف عن النمط الأدبي لبعض الظواهر أو الأحوال كما فعل دانته في «الكوميديا الإلهية» باللجوء إلى المبادئ الأرسطية؛ 3. النص الأدبي الذي يستكشف الظواهر والأحوال فلسفيًا حيث لا يكتفي باستعمال الأفكار الفلسفية المقتبسة عن الآخرين، بل يُطوِّر فلسفته الخاصة عبر الجنس الأدبي. رواية فولتير «كانديد أو في التفاؤل» هي من هذه الطينة في بلورة أفكار فلسفية مضادَّة لفلاسفة آخرين، منها نقد فكرة ليبنتز حول العقل الكافي بوجود علَّة لكل ما يحدث في العالم بالصيغة التي يحدث بها. في كل الأحوال، وأيًّا كانت نسبة الفكرة الفلسفية في الصورة الأدبية (ضئيلة أم جزيلة)، فإن التفلسف هو كذلك من اختصاص النص الأدبي، على سبيل الوسيلة أو الغاية. أما «الوسيلة» فهي استعمال الفكرة الفلسفية في سياق السَّرد للتعبير عن ظاهرة أو حالة (اجتماعية، بشرية، طبيعية، إلخ)؛ وأما «الغاية» فهي الوصول إلى نتيجة فلسفية عبر السَّرد في شكل اعتبار أو تدبُّر أو مبدأ أخلاقي حافل بالدروس والحِكَم والمواعظ، وهو ما نُسمِّيه «الأمثولة» (allegory) وهي صورة تتسربل برداء الفكرة، على غرار أمثولة الكهف عند أفلاطون، حيث الصور المدروسة هي منتقاة، بعضها يُمهِّد للفكرة الناصعة (شمس الحقيقة) وبعضها الآخر يُقصى بصفته ظنونًا وخدائع حسيَّة (الظلال الحاجبة).
معنى ذلك أن التشاكل بين الأدب والفلسفة يطرح مسألة عدم التناقض بين المضامين المعرفية (Cognitive) والأشكال الجمالية (Aesthetics)، حيث يُدلِّل الجنس الأدبي على أهداف معرفية (الوصول إلى حقيقةٍ ما) بوساطة أشكال جمالية (صور بيانية) تتلخَّص بعضها في الاستعارة والأمثولة والمجاز. هكذا لا يمكن الفصل بين المبنى والمعنى، ولا يمكن عزل الشكل عن المحتوى. أفضل النصوص الفلسفية هي تلك التي كُتبت «أدبيًا» أو لجأت إلى العناصر البيانية للتعبير عن فكرةٍ ما وتسويغ مضامينها؛ كما أن أفضل النصوص الأدبية هي تلك التي كُتبت «فلسفيًا» أو لجأت إلى العناصر البرهانية للتدليل على حقيقة ما تعالجه، وتدرك نمط المعرفة الخاص بما تتكلَّم حوله. الاختلاف بين الأدب والفلسفة هو في الدرجة وليس في الطبيعة، أي أن درجة البرهان في النص الفلسفي هي أقوى منه في النص الأدبي، ودرجة البيان في النص الأدبي هي أقوى منه في النص الفلسفي. غير أن استعمالات العناصر الأدبية (الأشكال الجمالية) في النص الفلسفي (المضامين المعرفية) هي بارزة، مثل اللجوء إلى الخيال أو التخييل لبلورة الفكرة. لا يجد القارئ صعوبة في فهم المسألة عندما يرى كيف أن فيلسوفًا من حجم غاستون باشلار وضع الأدب والفلسفة في كفَّتين تترجَّحان بمقدار، من جهة الفكرة العلمية (بعض كتبه: «تكوين الروح العلمية»، «العقلانية المطبَّقة») ومن جهة أخرى الصورة الأدبية (بعض كتبه: «الماء والأحلام»، «شاعرية الحلم»، إلخ).
- الخيَال، والبَلَاغَة، والتَّوَاشُج الأدَبْ-فَلْسَفي
لم يغذِّ الخيال فحسب الحظائر الأدبية بمختلف مخازنها الروائية والشعرية والسينمائية، بل غذَّى كذلك المعرفة العلمية؛ من جهة التخييل السَّردي للمعرفة العلمية كما كان الحال مع روايات جول فيرن (مثلًا «من الأرض إلى القمر»، 1865)، ومن جهة أخرى الإبداع العلمي والاختراع التقني. في كل الأحوال لا بدَّ من دافعٍ ذاتي هو طاقة الخيال الخلَّاق قبل دافعٍ موضوعي في شكل ملاحظة وتجريب وابتكار. الخيال، بما هو عالم «وسط» بين المحسوس والمعقول، هو ما يتيح إذن التشاكل بين الصورة والفكرة. نقول الخيال وكذلك «المصوِّرة» (مثلًا عند ابن سينا والفارابي)، أي «عمل الصورة». لا يكون عمل الصورة في الابتكار العلمي والسَّرد الأدبي فحسب، بل يُلقي بظلاله كذلك على التفكير الفلسفي بمجموع العناصر البيانية والجمالية التي تُدعِّم الفكرة زيادةً على العناصر البرهانية والحجاجية. ما يُسمَّى في اللغة الأجنبية imagination هو إذن أقرب إلى «عمل الصورة» منه إلى الخيال بالمعنى الحصري للشبح أو فانتاسْما. من ثمَّ فإن عمل الصورة في التفكير الفلسفي هو إلباس الفكرة حُلَّة بيانية (المسألة الجمالية) بعدما ألبسها المفهوم عِلَّة بُرهانية (المسألة المعرفية). إذا كان صحيحًا أن الفلسفة هي مسألة «المفهوم»، تتعامل مع المفاهيم، فإن الطابع الإبداعي ليس غريبًا عنها. تعريف دولوز للفلسفة على أنها «إبداع المفاهيم» هو إشارة منه إلى تواشج الصورة والفكرة، من جهة «الإبداع» الذي هو خاصية عمل الصورة بامتياز، ومن جهة أخرى «المفهوم» وهو خاصية التصوُّر الذي ينتجه العقل.
لا يمكن القول بأن تعريف جيل دولوز للفلسفة يحمل تناقضًا في الحدود، بين الإبداع من اختصاص عمل الصورة، والمفهوم من اختصاص عمل الفكرة. بل ينبغي النظر إليه من باب التشاكل والتكامل، وهو أن الفلسفة، وإن كانت مسألة «المفهوم» (concept)، فهي لا تنفصل عن الصورة عبر الشقَّين الآخرين اللذين يُشكِّلان مع المفهوم «مثلَّثًا فلسفيًا»، وهما «العُنصر الإدراكي» (percept) و«العُنصر الانفعالي» (affect). يُشير هذا المثلَّث الفلسفي إلى الفيلسوف (المفهوم) والفنَّان (الإدراك) والموسيقار (التأثير)، وهو بشكلٍ ما نُسخة معاصرة عن المثلث البلاغي كما سنَّه أرسطو حول «اللُّوغُوس» (logos) وهو العقل أو نمط التفكير المجرَّد؛ و«الإيثُوس» (ethos) وهو الطبع أو نمط الأسلوب والعلاقة بالآخر؛ و«البَاثُوس» (pathos) وهو التأثُّر أو نمط الانفعال والعلاقة بالأنا. إذا قُمنا بالتقريب بين المثلَّثين، نُدرك بأن الفلسفة تتغذَّى من الأشكال الأخرى الموازية لها أو المتقاطعة معها (الأدب، الفن، إلخ)، حيث تُمثِّل البلاغة الرابط والمَفْصَل. يقول دولوز وغاتاري بلا مواربة: «واللافلسفي قد يكون في قلب الفلسفة أكثر من الفلسفة ذاتها» (دولوز وغاتاري، 1997، ص60). معنى ذلك أن «اللافلسفي» (الأدبي، الفني…) يقطن الفلسفة ويعتمل فيها بالإجراءات الخاصة به وهي عمل الصورة بمفاعليها في التأثير والانفعال.
إذا أخذنا على سبيل المثال الرواية الفلسفية على شاكلة «حي بن يقظان» لابن طفيل أو «كانديد» لفولتير أو «عالم صوفي» للكاتب النرويجي جوستاين غاردر، نُدرك بأن الفكرة الفلسفية مغلَّفة بالصورة الأدبية والفنيَّة، حيث أن الغرض من الرواية الفلسفية ليس فحسب الحمل على التفكير الفلسفي المدعَّم برهانيًا، بل كذلك التأثير على القارئ ونقله إلى عوالم من عمل الصورة أو الخيال، يمتزج فيها التأمُّل الفلسفي بالأسلوب الأدبي عبر الاستعارة والأمثولة والمجاز والإضمار والتبديل وغيرها من الصور البيانية. نجد في الرواية الفلسفية «المفهوم أو لوغوس» عبر التسلسل البرهاني حول مجموعة من القضايا أو المباحث (المعرفة، الحقيقة، النفس، الخير، الشر، الجمال، المصير، إلخ)، و«العُنصر الإدراكي أو إيثوس» وهو ما ينبري من طبع الشخص الروائي من عبقرية أو أصالة أو حنكة أو هيبة، و«العُنصر الانفعالي أو باثوس» وهو ما يظهر من القارئ من تأثُّر أو انفعال في شكل دهشة أو حيرة أو فجعة أو غبطة تبعًا لأحوال القصَّة وما تنطوي عليه من تعاريج نصيَّة ومعاريج نفسية مساوقة لها. تحمل الرواية الفلسفية ألغازًا تحثُّ المتفلسف على إعمال الصورة والفكرة على حدٍّ سواء للوصول إلى اللوحة الشاملة للقضايا أو المطالب المطروحة. نقول «اللغز» ليس فقط بالمعنى النظري في التخمين (enigma)، بل كذلك بالمعنى العملي في الجمع والتركيب (puzzle).
التفلسف هو ممارسة عملية في حل الألغاز الفلسفية على شاكلة جمع القطع الصغيرة والمتناثرة من أجل تركيب صورة كبيرة تنمُّ عن مشهدٍ أو شخصٍ أو شيءٍ. نقول كذلك «أُحجية» لفك ما استعصى من كلمة أو مفهوم. نجد في الأحجية مقوِّمات التواشج الأدب-فلسفي (ونجازف بالقول بنوعٍ من الكلمة-الحقيبة «الأدبفلسفي») حيث يشترك عمل الصورة مع عمل الفكرة في فك الألغاز، وحيث يتقاسم الخيال والعقل مهام مشتركة. ليست لعبة الأحجية بكل ما تحمله من مواصفات الجدّيَّة والجدَّة أو الرصين والمبتكَر، من اختصاص هذا التواشج الأدب-فلسفي. لاحظ الابستمولوجي الأمريكي توماس كون إجراءً مماثلًا في النظرية العلمية في الفصل الرابع من كتابه «بُنية الثورات العلمية» تحت عنوان «العلم العادي علم حل الأحجيات» (كون، 2007، ص99-103) حيث يتمثَّل عمل العالـِم في المخبر العلمي في حل الألغاز التي يطرحه العلم عبر المعاجم والدلالات التي تحملها المصطلحات العلمية. إذا قرأنا العلم بهذه الصيغة، فإنه لا ينفك هو الآخر عن نوعٍ من عمل الصورة في ترتيب المضامين العلمية؛ وسيكون العلم بدوره شكل من الأدب ومن الفلسفة.
بهذا المعنى لا يتعامل العلم فحسب مع المعطيات الموضوعية عبر ما تكشفه له الأجهزة والبيانات والجداول والشاشات من أرقام وإحصائيات ومخططات، أي اللغة الاصطناعية، بل يشتغل كذلك باللغة الطبيعية عبر البنية السَّردية الحاملة لعناصر من الصورة والفكرة معًا، ويتراءى ذلك في مجموع الشروح والتعليقات والجدالات والسجالات التي تتخلَّل النقاش العلمي والتي على أثرها صوَّر توماس كون المعرفة العلمية على أساس التكوين العادي ثم الأزمة الداخلية وأخيرًا الثورة العلمية وبروز نموذج جديد (paradigm)، هو في أساسه رؤية علمية جديدة للعالم بانزياح الكلمات عن الدلالات السابقة وإلباسها دلالات جديدة. أي أن «النموذج» أو البَارَادَايْم هو مسألة «تغيير في الصورة» التي نحملها عن العالم. لا يتغيَّر المعجم بقدر ما يتغيَّر المعنى الممكن إضفاؤه على مصطلحاته. لا تتغيَّر الكلمات بقدر ما تتغيَّر معاني الكلمات بالمقارنة مع أشياء جديدة طرأت بظهور النموذج الجديد وزوال النموذج القديم. نُدرك بلا مرية كيف أن عمل الصورة والأحجية يتخلَّل مجالات معرفية متنوِّعة ومتباعدة في المنطلقات والأهداف: الأدب، والفن، والفلسفة، والعلم، فقط لأن ما يترأس هذه العملية في فك الألغاز وحل الأحجية هو «الصورة» دافعًا ومنهجًا، بغض النظر عن المضامين الخاصة بكل مجال معرفي. ستكون دراستنا القادمة حول هذا الدَّافع الرُّؤيوي والسلوك المنهجي الذي اتَّخذ اليوم اسم «علم الصورة» أو أيْقُونُولُوجْيَا.
المراجع
أفلاطون (1994)، المحاورات الكاملة، ترجمة شوقي داود تمراز، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، ط1.
دولوز، جيل، وغاتاري، فيليكس (1997)، ما هي الفلسفة، ترجمة مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، بيروت، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، ط1.
الصفدي، صلاح الدين (2000)، الوافي بالوفيات، تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1.
غادامير، هانس جيورج (2002)، بداية الفلسفة، ترجمة علي حاكم صالح وحسن ناظم، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، ط1.
كون، توماس س. (2007)، بنية الثورات العلمية، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1.
De Certeau, Michel (1984), The Practice of Everyday Life, trans. by Steven Rendall, University of California Pres: Berkeley-Los Angeles-London.
Derrida, Jacques (1988), « Y a-t-il une langue philosophique ? », Autrement, dossier : « À quoi pensent les philosophes ? », série Mutations, n°102.
Gadamer, Hans-Georg (2007), The Gadamer Reader: A Bouquet of the Later Writings, trans. by Richard E. Palmer, Northwestern University Press: Evanston (IL).
Jovanovic, Iris Vidmar (2021), « Littérature et philosophie : intersection et frontières », trad. Jean-Luc Py, Le Philosophoire, vol.1, n°55.
Nussbaum, Martha (1990), Love’s Knowledge: Essays on Philosophy and Literature, Oxford University Press: New York-Oxford.